مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٤٦٢
موضع الماء، واستولوا عليه، وطمعوا لهذا السبب أن تكون لهم الغلبة، وعطش المؤمنون وخافوا، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة، وأكثرهم احتلموا وأجنبوا، وانضاف إلى ذلك أن ذلك الموضع كان رملًا تغوص فيه الأرجل ويرتفع منه الغبار الكثير، وكان الخوف حاصلًا في قلوبهم، بسبب كثرة العدو وسبب كثرة آلاتهم وأدواتهم، فلما أنزل اللَّه تعالى ذلك المطر صار ذلك دليلًا على حصول النصرة والظفر، وعظمت النعمة به من جهات : أحدها : زوال العطش،
فقد روي أنهم حفروا موضعاً في الرمل، فصار كالحوض الكبير، واجتمع فيه الماء حتى شربوا منه وتطهروا وتزودوا.
وثانيها : أنهم اغتسلوا من ذلك الماء، وزالت الجنابة عنهم، وقد علم بالعادة أن المؤمن يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنباً، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب فلا جرم عد تعالى وتقدس تمكينهم من الطهارة من جملة نعمه. وثالثها : أنهم لما عطشوا ولم يجدوا الماء ثم ناموا واحتلموا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إن المطر نزل فزالت عنهم تلك البلية والمحنة وحصل المقصود. وفي هذه الحالة ما قد يستدل به على زوال العسر وحصول اليسر والمسرة.
أما قوله : وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ ففيه وجوه : الأول : أن المراد منه الاحتلام لأن ذلك من وساوس الشيطان. الثاني : أن الكفار لما نزلوا على الماء، وسوس الشيطان إليهم وخوفهم من الهلاك، فلما نزل المطر زالت تلك الوسوسة،
روي أنهم لما ناموا واحتلم أكثرهم، تمثل لهم إبليس وقال أنتم تزعمون أنكم على الحق وأنتم تصلون على الجنابة، وقد عطشتم ولو كنتم على الحق لما غلبوكم على الماء فأنزل اللَّه تعالى المطر حتى جرى الوادي واتخذ المسلمون حياضاً واغتسلوا وتلبد الرمل حتى ثبتت عليه الأقدام.
الثالث : أن المراد من رجز الشيطان سائر ما يدعو الشيطان إليه من معصية وفساد.
فإن قيل : فأي هذه الوجوه الثلاثة أولى؟
قلنا : قوله : لِيُطَهِّرَكُمْ معناه ليزيل الجنابة عنكم، فلو حملنا قوله : وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ على الجنابة لزم منه التكرير وأنه خلاف الأصل، ويمكن أن يجاب عنه فيقال المراد من قوله : لِيُطَهِّرَكُمْ حصول الطهارة الشرعية. والمراد من قوله : وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ إزالة جوهر المني عن أعضائهم فإنه شيء مستخبث، ثم تقول : حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة وذلك لأن تأثير الماء في إزالة العين عن العضو تأثير حقيقي أما تأثيره في إزالة الوسوسة عن القلب فتأثير مجازي وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، واعلم أنا إذا حملنا الآية على هذا الوجه لزم القطع بأن المني رجز الشيطان، وذلك يوجب الحكم بكونه نجساً مطلقاً لقوله تعالى : وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر : ٥].
[في قوله تعالى وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ ] النوع الثالث : من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى : وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ والمراد أن بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوف والفزع عنهم، ومعنى الربط في اللغة الشد، وقد ذكرنا ذلك في قوله تعالى : وَرابِطُوا [آل عمران : ٢٠٠] ويقال لكل من صبر على أمر، ربط قلبه عليه كأنه حبس قلبه عن أن يضطرب يقال : رجل رابط أي حابس. قال الواحدي : ويشبه أن يكون (على) هاهنا صلة والمعنى- وليربط قلوبكم بالنصر- وما وقع من تفسيره يشبه أن لا يكون صلة لأن كلمة (على) تفيد الاستعلاء. فالمعنى أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأنه علا عليها وارتفع فوقها.
[في قوله تعالى وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ ] والنوع الرابع : من النعم المذكورة هاهنا قوله تعالى : وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ وذكروا فيه وجوهاً : أحدها : أن