مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٤٧٠
ثم قال : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ والمعنى أن كل ما كان حاصلًا فإنه يجب أن يعلمه اللَّه فعدم علم اللَّه بوجوده من لوازم عدمه، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم اللَّه بوجوده، وتقرير الكلام لو حصل فيهم خير، لأسمعهم اللَّه الحجج والمواعظ سماع تعليم وتفهيم، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم لم ينتفعوا بها، ولتولوا وهم معرضون. قيل : إن الكفار سألوا الرسول عليه السلام أن يحيي لهم قصي بن كلاب وغيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوته، فبين تعالى أنه لو علم فيهم خيراً، وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم، ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت، وأنه لم أسمعهم اللَّه كلامهم لتولوا عن قبول الحق ولأعرضوا عنه، وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى حكم عليهم بالتولي عن الدلائل وبالإعراض عن الحق وأنهم لا يقبلونه ألبتة، ولا ينتفعون به ألبتة. فنقول : وجب أن يكون صدور الإيمان منهم محالًا، لأنه لو صدر الإيمان، لكان إما أن يوجد ذلك الإيمان مع بقاء هذا الخبر صدقاً أو مع انقلابه كذباً والأول محال، لأن وجود الإيمان مع الأخبار بعدم الإيمان جمع بين النقيضين وهو محال. والثاني محال، لأن انقلاب خبر اللَّه الصدق كذباً محال. لا سيما في الزمان الماضي المنقضي، وهكذا القول في انقلاب علم اللَّه جهلًا، وتقريره سبق مراراً.
المسألة الثانية : النحويون يقولون : كلمة (لو) وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لأجل انتفاء غيره، فإذا قلت : لو جئتني لأكرمتك، أفاد أنه ما حصل المجيء، وما حصل الإكرام. ومن / الفقهاء من قال : إنه لا يفيد إلا الاستلزام، فأما الانتفاء لأجل انتفاء الغير، فلا يفيده هذا اللفظ والدليل عليه الآية والخبر، أما الآية، فهي هذه الآية، وتقريره : أن كلمة (لو) لو أفادت ما ذكروه لكان قوله : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ يقتضي أنه تعالى ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم. ثم قال : وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا فيكون معناه : أنه ما أسمعهم وأنهم ما تولوا لكن عدم التولي خير من الخيرات، فأول الكلام يقتضي نفي الخير، وآخره يقتضي حصول الخير، وذلك متناقض. فثبت أن القول بأن كلمة (لو) تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره يوجب هذا التناقض، فوجب أن لا يصار إليه. وأما الخبر
فقوله عليه السلام :«نعم الرجل صهيب لو لم يخف اللَّه لم يعصه»
فلو كانت لفظة «لو» تفيد ما ذكروه لصار المعنى أنه خاف اللَّه وعصاه، وذلك متناقض. فثبت أن كلمة (لو) لا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، وإنما تفيد مجرد الاستلزام.
واعلم أن هذا الدليل أحسن إلا أنه على خلاف قول جمهور الأدباء.
المسألة الثالثة : أن معلومات اللَّه تعالى على أربعة أقسام : أحدها : جملة الموجودات. والثاني : جملة المعدومات. والثالث : أن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً فكيف يكون حاله. الرابع : أن كل واحد من المعدومات لو كان موجوداً كيف يكون حاله، والقسمان الأولان علم بالواقع، والقسمان الثانيان عم بالمقدر الذي هو غير واقع، فقوله : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ من القسم الثاني وهو العلم بالمقدرات، وليس من أقسام العلم بالواقعات ونظيره قوله تعالى حكاية عن المنافقين : لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ... وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وقال تعالى : لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ [الحشر : ١١، ١٢] فعلم تعالى في المعدوم أنه لو كان موجوداً كيف يكون حاله، وأيضاً قوله :