مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٤٨١
والمكاء الصفير. ومنه المكاء وهو طائر يألف الريف، وجمعه المكاكي سمى بذلك لكثرة مكانه. وأما التصدية فهي التصفيق. يقال : صدى يصدي تصدية إذا صفق بيديه، وفي أصلها قولان : الأول : أنها من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من جبل. الثاني : قال أبو عبيدة : أصلها تصددة، فأبدلت الياء من الدال. ومنه قوله تعالى :
إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف : ٥٧] أي يعجزون، وأنكر بعضهم هذا الكلام، والأزهري صحح قول أبي عبيدة. وقال : صدى أصله صدى، فكثرت الدالات الدالة فقلبت إحداهن ياء.
إذا عرفت هذا فنقول : قال ابن عباس : كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون / وقال مجاهد : كانوا يعارضون النبي صَلَّى اللّه عليه وسلّم في الطواف ويستهزءون به ويصفرون ويخلطون عليه طوافه وصلاته، وقال مقاتل : كان إذا صلى الرسول في المسجد يقومون عن يمينه ويساره بالتصفير والتصفيق ليخلطوا عليه صلاته.
فعلى قول ابن عباس : كان المكاء والتصدية نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقاتل، كان إيذاء للنبي صَلَّى اللّه عليه وسلّم.
والأول أقرب لقوله تعالى : وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً.
فإن قيل : المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف يجوز استثناؤهما عن الصلاة؟
قلنا : فيه وجوه : الأول : أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة، فخرج هذا الاستثناء على حسب معتقدهم. الثاني : أن هذا كقولك وددت الأمير فجعل جفائي صلتي. أي أقام الجفاء مقام الصلة فكذا هاهنا. الثالث : الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له، كما تقول العرب، ما لفلان عيب إلا السخاء. يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له.
ثم قال تعالى : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي عذاب السيف يوم بدر، وقيل : يقال لهم في الآخرة : فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٦ إلى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية، أتبعها بشرح أحوالهم في الطاعات المالية. قال مقاتل والكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلًا من كبار قريش. وقال سعيد بن جبير ومجاهد : نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد، وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العرب، وأنفق عليهم / أربعين أوقية والأوقية اثنان وأربعون مثقالًا، هكذا قاله صاحب «الكشاف». ثم بين تعالى أنهم إنما ينفقون هذا المال ليصدوا عن سبيل اللَّه، أي كان غرضهم في الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل اللَّه، وإن لم يكن عندهم كذلك.
ثم قال : فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يعني : أنه سيقع هذا الإنفاق ويكون عاقبته الحسرة، لأنه يذهب المال ولا يحصل المقصود، بل يصيرون مغلوبين في آخر الأمر كما قال تعالى : كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة : ٢١] وقوله : وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ففيه بحثان :