مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٤٨٧
المسألة الأولى : لا شك أن عسكر الرسول عليه السلام في أول الأمر كانوا في غاية الخوف والضعف بسبب القلة وعدم الأهبة، ونزلوا بعيدين عن الماء، وكانت الأرض التي نزلوا فيها أرضاً رملية تغوص فيها أرجلهم. وأما الكفار، فكانوا في غاية القوة بسبب الكثرة في العدد، وبسبب حصول الآلات والأدوات، لأنهم كانوا قريبين من الماء، ولأن الأرض التي نزلوا فيها كانت صالحة للمشي، ولأن العير كانوا خلف ظهورهم، وكانوا يتوقعون مجيء المدد من العير إليهم ساعة فساعة، ثم إنه تعالى قلب القصة وعكس القضية، وجعل الغلبة للمسلمين، والدمار على الكافرين فصار ذلك من أعظم المعجزات وأقوى البينات على صدق محمد صَلَّى اللّه عليه وسلّم، فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر. فقوله : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ إشارة إلى هذا المعنى، وهو أن الذين هلكوا إنما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة، والمؤمنون الذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة، والمراد من البينة هذه المعجزة.
المسألة الثانية : اللام في قوله : لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وفي قوله : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ لام الغرض، وظاهره يقتضي تعليل أفعال اللَّه وأحكامه بالأغراض والمصالح، إلا أنا نصرف هذا الكلام عن ظاهره بالدلائل العقلية المشهورة.
المسألة الثالثة : قوله : لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ظاهره يقتضي أنه تعالى أراد من الكل العلم والمعرفة والخير والصلاح، وذلك يقدح في قول أصحابنا : أنه تعالى أراد الكفر من الكافر، لكنا نترك هذا الظاهر بالدلائل المعلومة.
المسألة الرابعة : قوله : وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ قرأ نافع وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير ونصير عن الكسائي من حيي بإظهار الياءين وأبو عمرو، وابن كثير برواية القواس، وابن عامر وحفص عن عاصم والكسائي بياء مشددة على الإدغام. فأما الإدغام فللزوم الحركة في الثاني، فجرى مجرى رد لأنه في المصحف مكتوب بياء واحدة. وأما الإظهار فلامتناع الإدغام في مضارعه من «يحيى» فجرى على مشاكلته، وأجاز بعض الكوفيين الإدغام في يَحْيى.
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي يسمع دعاءكم ويعلم حاجتكم وضعفكم، فأصلح مهمكم.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٣]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣)
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من النعم التي أنعم اللَّه بها على أهل بدر، وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ منصوب بإضمار اذكر، أو هو بدل ثان من يوم الفرقان أو متعلق بقوله :
لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي يعلم المصالح إذ يقللهم في أعينكم.
المسألة الثانية : قال مجاهد : أرى اللَّه النبي عليه السلام كفار قريش في منامه قليلًا فأخبر بذلك أصحابه.
فقالوا : رؤيا النبي حق، القوم قليل، فصار ذلك سبباً لجراءتهم وقوة قلوبهم.


الصفحة التالية
Icon