مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٥٢٣
الَّذِينَ عاهَدْتُمْ
هو الخبر كما تقول رجل من بني تميم في الدار.
فإن قالوا : ما السبب في أن نسب البراءة إلى اللَّه ورسوله، ونسب المعاهدة إلى المشركين؟
قلنا قد أذن اللَّه في معاهدة المشركين، فاتفق المسلمون مع رسول اللَّه صَلَّى اللّه عليه وسلّم وعاهدهم ثم إن المشركين نقضوا العهد فأوجب اللَّه النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل اعلموا أن اللَّه ورسوله قد برئا مما عاهدتم من المشركين.
المسألة الثانية :
روي أن النبي صَلَّى اللّه عليه وسلّم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا بالأراجيف، جعل المشركون ينقضون العهد، فنبذ رسول اللَّه صَلَّى اللّه عليه وسلّم العهد إليهم.
فإن قيل : كيف يجوز أن ينقض النبي صَلَّى اللّه عليه وسلّم العهد؟
قلنا : لا يجوز أن ينقض العهد إلا على ثلاثة أوجه : أحدها : أن يظهر له منهم خيانة مستورة ويخاف ضررهم فينبذ العهد إليهم، حتى يستووا في معرفة نقض العهد لقوله : وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال : ٥٨] وقال أيضاً : الَّذِينَ... يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ [الأنفال : ٥٦] والثاني :
أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أن يأمر اللَّه تعالى بقطعه.
فلما أمره اللَّه تعالى بقطع العهد بينهم قطع لأجل الشرط. والثالث : أن يكون مؤجلًا فتنقضي المدة وينقضي العهد ويكون الغرض من إظهار هذه البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود إلى العهد، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة، فأما فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد ألبتة، لأنه يجري مجرى الغدر وخلف القول، واللَّه ورسوله منه بريئان، ولهذا المعنى قال اللَّه تعالى : إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [التوبة : ٤] وقيل : إن أكثر المشركين نقضوا العهد إلا أناساً منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة.
المسألة الثالثة :
روي أن فتح مكة كان سنة ثمان وكان الأمير فيها عتاب بن أسيد، ونزول هذه السورة سنة تسع، وأمر رسول اللَّه صَلَّى اللّه عليه وسلّم أبا بكر رضي اللَّه عنه سنة تسع أن يكون على الموسم، فلما نزلت هذه السورة أمر علياً أن يذهب إلى أهل الموسم ليقرأها عليهم. فقيل له لو بعثت بها إلى أبي بكر، فقال : لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء، فوقف وقال : هذا رغاء ناقة رسول اللَّه صَلَّى اللّه عليه وسلّم، فلما لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور، ثم ساروا، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم، وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال : يا أيها الناس إني رسول رسول اللَّه إليكم، فقالوا بما ذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية، وعن مجاهد ثلاث عشرة آية، ثم قال : أمرت بأربع أن لا يقرب هذا البيت بعد هذه العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف،
واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر علياً بقراءة هذه السورة عليهم وتبليغ هذه الرسالة إليهم، فقالوا السبب فيه أن عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما نعرف فينا من نقض العهود فربما لم يقبلوا، فأزيحت علتهم بتولية ذلك علياً رضي اللَّه عنه، وقيل لما خص أبا بكر رضي اللَّه عنه بتوليته أمير الموسم خص علياً بهذا التبليغ تطييباً للقلوب ورعاية للجوانب،


الصفحة التالية
Icon