مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٥٣٠
المسألة الثانية : أحد مرتفع بفعل مضمر يفسره الظاهر، وتقديره : وإن استجارك أحد، ولا يجوز أن يرتفع بالابتداء لأن إن من عوامل الفعل لا يدخل على غيره.
فإن قيل : لما كان التقدير ما ذكرتم فما الحكمة في ترك هذا الترتيب الحقيقي؟
قلنا : الحكمة فيه ما ذكره سيبويه، وهو أنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه، أعني وقد بينا هاهنا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشركين، فقدم ذكره ليدل ذلك على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار، قال الزجاج : المعنى إن طلب منك أحد منهم أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام اللَّه فأجره.
المسألة الثالثة : قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن كلام اللَّه يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات، فدل ذلك على أن كلام اللَّه ليس إلا هذه الحروف والأصوات، ثم من المعلوم بالضرورة أن الحروف والأصوات لا تكون قديمة، لأن تكلم اللَّه بهذه الحروف إما أن يكون معاً أو على الترتيب، فإن تكلم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم، لأن الكلام لا يحصل منتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب، فلو حصلت معاً لا متعاقبة لما حصل الانتظام، فلم يحصل الكلام. وأما إن حصلت متعاقبة، لزم أن ينقضي المتقدم ويحدث المتأخر، وذلك يوجب الحدوث، فدل هذا عن أن كلام اللَّه محدث. قالوا : فإن قلتم إن كلام اللَّه شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات فهذا باطل لأن الرسول ما كان يشير بقوله كلام اللَّه إلا هذه الحروف والأصوات، وأما الحشوية والحمقى من الناس، فقالوا ثبت بهذه الآية أن كلام اللَّه ليس إلا هذه الحروف والأصوات، وثبت أن كلام اللَّه قديم، فوجب القول بقدم الحروف والأصوات.
واعلم أن الأستاذ أبا بكر بن فورك زعم أنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات فقد سمعنا مع ذلك كلام اللَّه تعالى وأما سائر الأصحاب فقد أنكروا عليه هذا القول، وذلك لأن ذلك الكلام القديم إما أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات، وإما أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها. والأول : هو قول الرعاع والحشوية وذلك لا يليق بالعقلاء.
وأما الثاني : فباطل لأنا على هذا التقدير لما سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالف ماهية هذه الحروف والأصوات، لكنا نعلم بالضرورة أن عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم ندرك بحاسة السمع أمراً آخر مغايراً لها فسقط هذا الكلام.
والجواب الصحيح عن كلام المعتزلة أن نقول : هذا الذي نسمعه ليس عين كلام اللَّه على مذهبكم، لأن كلام اللَّه ليس إلا الحروف والأصوات التي خلقها أولًا، بل تلك الحروف والأصوات انقضت وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم.
واعلم أن أبا علي الجبائي لقوة هذا الإلزام ارتكب مذهباً عجيباً فقال : كلام اللَّه شيء مغاير للحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارئ، وقد أطبق المعتزلة على سقوط هذا المذهب واللَّه أعلم.
المسألة الرابعة : اعلم أن هذه الآية تدل على أن التقليد غير كاف في الدين وأنه لا بد من النظر والاستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له إما أن تؤمن، وإما أن


الصفحة التالية
Icon