مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ١٨٥
لرسولنا عليه الصلاة والسلام، ليست إلا القرآن الرابع : أن الْحَكِيمِ بمعنى المحكم والأحكام معناه المنع من الفساد، فيكون المراد منه أنه لا يمحوه الماء، ولا تحرقه النار، ولا تغيره الدهور أو المراد منه براءته عن الكذب والتناقض. الخامس : قال الحسن : وصف الكتاب بالحكيم، لأنه تعالى حكم فيه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنة لمن أطاعه وبالنار لمن عصاه، فعلى هذا الْحَكِيمِ يكون معناه المحكوم فيه. السادس : أن الْحَكِيمِ في أصل اللغة : عبارة عن الذي يفعل الحكمة والصواب، فكان وصف القرآن به مجازا، ووجه المجاز هو أنه يدل على الحكمة والصواب، فمن حيث إنه يدل على هذه المعاني صار كأنه هو الحكيم في نفسه.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢]
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن كفار قريش تعجبوا من تخصيص اللّه تعالى محمدا بالرسالة والوحي، فأنكر اللّه تعالى عليهم ذلك التعجب. أما بيان كون الكفار تعجبوا من هذا التخصيص فمن وجوه : الأول : قوله تعالى : جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ
[ص : ٥، ٦] وإذا بلغوا في الجهالة إلى أن تعجبوا من كون الإله تعالى واحدا، لم يبعد أيضا أن يتعجبوا من تخصيص اللّه تعالى محمدا بالوحي والرسالة! والثاني : أن أهل مكة كانوا يقولون : إن اللّه تعالى ما وجد رسولا إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب! والثالث : أنهم قالوا : لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : ٣١] وبالجملة فهذا التعجب يحتمل وجهين : أحدهما : أن يتعجبوا من أن يجعل اللّه بشرا رسولا، كما حكى عن الكفار أنهم قالوا : أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء : ٩٤] والثاني : أن لا يتعجبوا من ذلك بل يتعجبوا من تخصيص محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي والنبوة مع كونه فقيرا يتيما، فهذا بيان أن الكفار تعجبوا من ذلك. وأما بيان أن اللّه تعالى أنكر عليهم هذا التعجب فهو قوله في هذه الآية : أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ فإن قوله : أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الإنكار، لأن يكون ذلك عجبا وإنما وجب إنكار هذا التعجب لوجوه : الأول : أنه تعالى مالك الخلق وملك لهم والمالك والملك هو الذي له الأمر والنهي والإذن والمنع ولا بد من إيصال تلك التكاليف إلى أولئك المكلفين بواسطة بعض العباد وإذا كان الأمر كذلك كان إرسال الرسول أمرا غير ممتنع، بل كان مجوزا في العقول.
الثاني : أنه تعالى خلق الخلق للاشتغال بالعبودية كما قال : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : ٥٦] وقال : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ [الإنسان : ٢] وقال : قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى : ١٤، ١٥] ثم إنه تعالى أكمل عقولهم ومكنهم من الخير والشر، ثم علم تعالى أن عباده لا يشتغلون بما كلفوا به، إلا إذا أرسل إليهم رسولا ومنبها فعند هذا يجب وجوب الفضل والكرم والرحمة أن يرسل إليهم ذلك الرسول، وإذا كان ذلك واجبا فكيف يتعجب منه. الثالث : أن إرسال الرسل أمر ما أخلى اللّه تعالي شيئا من أزمنة وجود المكلفين منه، كما قال : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف : ١٠٩] فكيف يتعجب منه مع أنه قد سبقه النظير، ويؤكده قوله تعالى : وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [الأعراف : ٥٩] وسائر


الصفحة التالية
Icon