مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ١٨٧
أما الإنذار فللكفار والفساق ليرتدعوا بسبب ذلك الإنذار عن فعل ما لا ينبغي، وأما التبشير فلأهل الطاعة لتقوى رغبتهم فيها وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي.
المسألة السادسة : قوله : قَدَمَ صِدْقٍ فيه أقوال لأهل اللغة وأقوال المفسرين. أما أقوال أهل اللغة فقد نقل الواحدي في «البسيط» منها وجوها. قال الليث وأبو الهيثم : القدم السابقة، والمعنى : أنهم قد سبق لهم عند اللّه خير قال ذو الرمة :
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة لهم قدم معروفة ومفاخر
وقال أحمد بن يحيى : القدم كل ما قدمت من خير، وقال ابن الأنباري : القدم كناية عن العمل الذي يتقدم فيه، ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء.
واعلم أن السبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني، أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم، فسمى المسبب باسم السبب، كما سميت النعمة يدا، لأنها تعطى باليد.
فإن قيل : فما الفائدة في إضافة القدم إلى الصدق في قوله سبحانه : قَدَمَ صِدْقٍ.
قلنا : الفائدة التنبيه على زيادة الفضل وأنه من السوابق العظيمة، وقال بعضهم : المراد مقام صدق. وأما المفسرون فلهم أقوال فبعضهم حمل قَدَمَ صِدْقٍ على الأعمال الصالحة وبعضهم حمله على الثواب، ومنهم من حمله على شفاعة محمد عليه الصلاة والسلام، واختار ابن الأنباري هذا الثاني وأنشد :
صل لذي العرش واتخذ قدما بنجيك يوم العثار والزلل
المسألة السابعة : أن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم وأتاهم من عند اللّه تعالى بما هو اللائق بحكمته وفضله قالوا متعجبين إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ أي إن هذا الذي يدعي أنه رسول هو ساحر.
والابتداء بقوله : قالَ الْكافِرُونَ على تقدير فلما أنذرهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين، قال القفال :
وإضمار هذا، غير قليل في القرآن.
المسألة الثامنة : قرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي إِنَّ هذا لَساحِرٌ والمراد منه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، والباقون لسحر والمراد به القرآن.
واعلم أن وصف الكفار القرآن بكونه سحرا يدل على عظم محل القرآن عندهم، وكونه معجزا / وأنه تعذر عليهم فيه المعارضة، فاحتاجوا إلى هذا الكلام.
واعلم أن إقدامهم على وصف القرآن بكونه سحرا، يحتمل أن يكونوا ذكروه في معرض الذم، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح، فلهذا السبب اختلف المفسرون فيه فقال بعضهم : أرادوا به أنه كلام مزخرف حسن الظاهر، ولكنه باطل في الحقيقة، ولا حاصل له، وقال آخرون : أرادوا به أنه لكمال فصاحته وتعذر مثله، جار مجرى السحر.
واعلم أن هذا الكلام لما كان في غاية الفساد لم يذكر جوابه، وإنما قلنا إنه في غاية الفساد، لأنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان منهم، ونشأ بينهم وما غاب عنهم، وما خالط أحدا سواهم، وما كان مكة بلدة العلماء والأذكياء، حتى يقال : إنه


الصفحة التالية
Icon