مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٠١
واعلم أن قوله سبحانه : خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ [يس : ٧٧] إشارة إلى ما ذكرناه في الحجة العاشرة من أن تلك الأجزاء كانت متفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، فجمعها اللّه تعالى وخلق من تركيبها هذا الحيوان، والذي يقويه قوله سبحانه : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون : ١٢، ١٣] فإن تفسيره هذه الآية إنما يصح بالوجه الذي ذكرناه، وهو أن السلالة من الطين يتكون منها نبات، ثم إن ذلك النبات يأكله الإنسان فيتولد منه الدم، ثم الدم ينقلب نطفة، فبهذا الطريق ينظم ظاهر هذه الآية. ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذا المعنى حكى كلام المنكر، وهو قوله تعالى : قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس : ٧٨] ثم إنه تعالى بين إمكان هذا المذهب.
واعلم أن إثبات إمكان الشيء لا يعقل إلا بطريقين : أحدهما : أن يقال : إن مثله ممكن، فوجب أن يكون هذا أيضا ممكنا. والثاني : أن يقال : إن ما هو أعظم منه وأعلى حالا منه، فهو أيضا ممكن. ثم إنه تعالى ذكر الطريق الأول أولا فقال : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس : ٧٩] ثم فيه دقيقة وهي أن قوله : قُلْ يُحْيِيهَا إشارة إلى كمال القدرة، وقوله : وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ إشارة إلى كمال العلم.
ومنكر والحشر والنشر لا ينكرونه إلا لجهلهم بهذين الأصلين، لأنهم تارة يقولون : إنه تعالى موجب بالذات، والموجب بالذات لا يصح منه القصد إلى التكوين، وتارة يقولون إنه يمتنع كونه عالما بالجزئيات، فيمتنع منه تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، ولما كانت شبه الفلاسفة مستخرجة من هذين الأصلين، لا جرم كلما ذكر اللّه تعالى مسألة المعاد أردفه بتقرير هذين الأصلين ثم إنه تعالى ذكر بعده الطريق الثاني، وهو الاستدلال بالأعلى على الأدنى، وتقريره من وجهين : الأول : أن الحياة لا تحصل إلا بالحرارة والرطوبة، والتراب بارد يابس، فحصلت المضادة بينهما إلا أنا نقول : الحرارة النارية أقوى في صفة الحرارة من الحرارة الغريزية، فلما لم يمتنع تولد الحرارة النارية عن الشجر الأخضر مع كمال ما بينهما من المضادة، فكيف يمتنع حدوث الحرارة الغريزية / في جرم التراب؟ الثاني : قوله تعالى : أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس : ٨١] بمعنى أنه لما سلمتم أنه تعالى هو الخالق لأجرام الأفلاك والكواكب، فكيف يمكنكم الامتناع عن كونه قادرا على الحشر والنشر؟ ثم إنه تعالى جسم مادة الشبهات بقوله : إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس : ٨٢] والمراد أن تخليقه وتكوينه لا يتوقف على حصول الآلات والأدوات ونطفة الأب ورحم الأم، والدليل عليه أنه خلق الأب الأول، لا عن أب سابق عليه، فدل ذلك على كونه سبحانه غنيا في الخلق والإيجاد والتكوين عن الوسائط والآلات. ثم قال سبحانه : فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس : ٨٣] أي سبحانه من أن لا يعيدهم ويهمل أمر المظلومين، ولا ينتصف للعاجزين من الظالمين، وهو المعنى المذكور في هذه الآية التي نحن في تفسيرها، وهي قوله سبحانه :
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ.
الحجة الثانية عشر : دلت الدلائل على أن العالم محدث ولا بد له من محدث قادر، ويجب أن يكون عالما، لأن الفعل المحكم المتقن لا يصدر إلا من العالم، ويجب أن يكون غنيا عنها وإلا لكان قد خلقها في الأزل وهو محال، فثبت أن لهذا العالم إلها قادرا عالما غنيا، ثم لما تأملنا فقلنا : هل يجوز في حق هذا الحكيم الغني عن الكل أن يهمل عبيده ويتركهم سدى، ويجوز لهم أن يكذبوا عليه ويبيح لهم أن يشتموه ويجحدوا


الصفحة التالية
Icon