مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٠٥
المسألة الأولى : تقرير هذا الدليل أنه تعالى بين بالدليل كونه خالقا للأفلاك والأرضين، ويدخل فيه أيضا كونه خالقا لكل ما في هذا العالم من الجمادات والمعادن والنبات والحيوان والإنسان، وقد ثبت في العقل أن كل من كان قادرا على شيء، وكانت قدرته باقية ممتنعة الزوال، وكان عالما بجميع المعلومات فإنه يمكنه إعادته بعينه، فدل هذا الدليل على أنه تعالى قادر على إعادة الإنسان بعد موته.
المسألة الثانية : اتفق المسلمون على أنه تعالى قادر على إعدام أجسام العالم، واختلفوا في أنه تعالى هل يغدمها أم لا؟ فقال قوم إنه تعالى يعدمها، واحتجوا بهذه الآية وذلك لأنه تعالى حكم على جميع المخلوقات بأنه يعيدها، فوجب أن يعيد الأجسام أيضا، وإعادتها لا تمكن إلا بعد إعدامها، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محال ونظيره قوله تعالى : يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء :
١٠٤] فحكم بأن الإعادة تكون مثل الابتداء، ثم ثبت بالدليل أنه تعالى إنما يخلقها في الابتداء من العدم، فوجب أن يقال إنه تعالى يعيدها أيضا من العدم.
المسألة الثالثة : في هذه الآية إضمار، كأنه قيل : إنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة، ثم يميتهم ثم يعيدهم، كما قال في سورة البقرة : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة : ٢٨] إلا أنه تعالى حذف ذكر الأمر بالعبادة هاهنا، لأجل أنه تعالى قال قبل هذه الآية : ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [يونس :
٣] وحذف ذكر الإماتة لأن ذكر الإعادة يدل عليها.
المسألة الرابعة : قرأ بعضهم إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بالكسر وبعضهم بالفتح. قال الزجاج : من كسر الهمزة من «أن» فعلى الاستئناف، وفي الفتح وجهان : الأول : أن يكون التقدير : إليه مرجعكم جميعا لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده. والثاني : أن يكون التقدير : وعد اللّه وعدا بدأ الخلق ثم إعادته، وقرئ يبدي من أبدأ وقرئ حق إنه يبدأ الخلق كقولك : حق إن زيدا منطلق.
أما قوله تعالى : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ فاعلم أن المقصود منه إقامة الدلالة على أنه لا بد من حصول الحشر والنشر، حتى يحصل الفرق بين المحسن والمسيء، وحتى يصل / الثواب إلى المطيع والعقاب إلى العاصي، وقد سبق الاستقصاء في تقرير هذا الدليل، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الكعبي : اللام في قوله تعالى : لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يدل على أنه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة. وأيضا فإنه أدخل لام التعليل على الثواب. وأما العقاب فما أدخل فيه لام التعليل، بل قال :
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وذلك يدل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، وذلك يدل على أنه ما أراد منهم الكفر، وما خلق فيهم الكفر ألبتة.
والجواب : أن لام التعليل في أفعال اللّه تعالى محال، لأنه تعالى لو فعل فعلًا لعلة لكانت تلك العلة، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة لزم التسلسل وهو محال.
المسألة الثانية : قال الكعبي أيضا : هذه الآية تدل على أنه لا يجوز من اللّه تعالى أن يبدأ خلقهم في الجنة، لأنه لو حسن إيصال تلك النعم إليهم من غير واسطة خلقهم في هذا العالم ومن غير واسطة تكليفهم، لما كان خلقهم وتكليفهم معللا بإيصال تلك النعم إليهم، وظاهر الآية يدل على ذلك.


الصفحة التالية
Icon