مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢١٤
هُدىً
[محمد : ١٧] وهذه الزوائد والفوائد والمزايا يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت، قال القفال : وإذا حملنا الآية على هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم، إلا أن حذف الواو وجعل قوله : تَجْرِي خبرا مستأنفا منقطعا عما قبله.
والتأويل الثالث : أن الكلام في تفسير هذه الآية يجب أن يكون مسبوقا بمقدمات.
المقدمة الأولى : أن العلم نور والجهل ظلمة وصريح العقل يشهد بأن الأمر كذلك، ومما يقرره أنك إذا ألقيت مسألة جليلة شريفة على شخصين، فاتفق أن فهمها أحدهما وما فهمها الآخر، فإنك ترى وجه الفاهم متهللا مشرقا مضيئا، ووجه من لم يفهم عبوسا مظلما منقبضا، ولهذا السبب جرت عادة القرآن بالتعبير عن العلم والإيمان والنور، وعن الجهل والكفر بالظلمات.
والمقدمة الثانية : أن الروح كاللوح، والعلوم والمعارف كالنقوش المنقوشة في ذلك اللوح. ثم هاهنا دقيقة، وهي أن اللوح الجسماني إذا رسمت فيه نقوش جسمانية فحصول بعض النقوش في ذلك اللوح مانع من حصول سائر النقوش فيه، فأما لوح الروح فخاصيته على الضد من ذلك، فإن الروح إذا كانت خالية عن نقوش المعارف والعلوم فإنه يصعب عليه تحصيل المعارف والعلوم، فإذا احتال وحصل شيء منها، كان حصول ما حصل منها معينا له على سهولة تحصيل الباقي، وكلما كان الحاصل أكثر كان تحصيل البقية أسهل، فالنقوش الجسمانية يكون بعضها مانعا من حصول الباقي، والنقوش الروحانية يكون بعضها معينا على حصول البقية، وذلك يدل على أن أحوال العالم الرحمل اللفظ عليه تحصيلا لهذا الغرض. الثاني : أنه تعالى قال : وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ولا شك أن هذا وعيد، وصرف هذا الوعيد إلى أقرب الأشياء المذكورة أولى، والأقرب هو ذكر الاختلاف، فوجب صرف هذا الوعيد إلى هذا الاختلاف، لا إلى ما سبق من كون الناس أمة واحدة، وإذا كان كذلك، وجب أن يقال : كانوا أمة واحدة في الإسلام لا في الكفر، لأنهم لو كانوا أمة واحدة في الكفر لكان اختلافهم بسبب الإيمان، ولا يجوز أن يكون الاختلاف الحاصل بسبب الإيمان سببا لحصول الوعيد. أما لو كانوا أمة واحدة في الإيمان لكان اختلافهم بسبب الكفر، وحينئذ يصح جعل ذلك الاختلاف سببا للوعيد.
القول الثاني : قول من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الكفر، وهذا القول منقول عن طائفة من المفسرين. قالوا : وعلى هذا التقدير ففائدة هذا الكلام في هذا المقام هي أنه تعالى بين للرسول عليه الصلاة والسلام، أنه لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الدين مجيبا لك، قابلا لدينك / فإن الناس كلهم كانوا على الكفر، وإنما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك، فكيف تطمع في اتفاق الكل على الإيمان؟
القول الثالث : قول من يقول : المراد إنهم كانوا أمة واحدة في أنهم خلقوا على فطرة الإسلام، ثم اختلفوا في الأديان. وإليه الإشارة
بقوله عليه الصلاة والسلام :«كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»
ومنهم من يقول المراد كانوا أمة واحدة في الشرائع العقلية، وحاصلها يرجع إلى أمرين : التعظيم لأمر اللَّه تعالى والشفقة على خلق اللَّه. وإليه الإشارة بقوله تعالى : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الأنعام : ١٥١] واعلم أن هذه المسألة قد استقصينا فيها في سورة البقرة، فلنكتف بهذا القدر هاهنا.
أما قوله تعالى : وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فاعلم أنه ليس في الآية ما يدل على أن تلك الكلمة ما هي؟ وذكروا فيه وجوها : الأول : أن يقال لولا أنه تعالى أخبر بأنه يبقى التكليف على عباده، وإن كانوا به كافرين، لقضى بينهم بتعجيل الحساب والعقاب لكفرهم، لكن لما كان ذلك سببا لزوال التكليف، ويوجب الإلجاء، وكان إبقاء التكليف أصوب وأصلح، لا جرم أنه تعالى أخر هذا العقاب إلى الآخرة. ثم قال هذا القائل، وفي ذلك تصبير للمؤمنين على احتمال المكاره من قبل الكافرين والظالمين.
الثاني : وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في أنه لا يعاجل العصاة بالعقوبة إنعاما عليهم، لقضى بينهم في


الصفحة التالية
Icon