مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٥٢
والإقرار والعمل، والشك حاصل في أن هذه الأعمال هل هي موافقة لأمر اللَّه تعالى؟ والشك في أحد أجزاء الماهية لا يوجب الشك في تمام الماهية. الثاني : أن الغرض من قوله إن شاء اللَّه بقاء الإيمان عند الخاتمة.
الثالث : الغرض منه هضم النفس وكسرها. واللَّه أعلم.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٧ إلى ٣٩]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)
[في قوله تعالى وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ ] فيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنا حين شرعنا في تفسير قوله تعالى : وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس : ٢٠] ذكرنا أن القوم إنما ذكروا ذلك لاعتقادهم أن القرآن ليس بمعجز، وأن محمدا إنما يأتي به من عند نفسه على سبيل الافتعال والاختلاق، ثم إنه تعالى ذكر الجوابات الكثيرة عن هذا الكلام، وامتدت تلك البيانات على الترتيب الذي شرحناه وفصلناه إلى هذا الموضع، ثم إنه تعالى بين في هذا المقام أن إتيان محمد عليه السلام بهذا القرآن ليس على سبيل الافتراء على اللَّه تعالى، ولكنه وحي نازل عليه من عند اللَّه، ثم إنه تعالى احتج على صحة هذا الكلام بقوله : أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وذلك يدل على أنه معجز نازل عليه من عند اللَّه تعالى، وأنه مبرأ عن الافتراء والافتعال فهذا هو الترتيب الصحيح في نظم هذه الآيات.
المسألة الثانية : قوله تعالى : وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى فيه وجهان : الأول : أن قوله : أَنْ يُفْتَرى في تقدير المصدر، والمعنى : وما كان هذا القرآن افتراء من دون اللَّه، كما تقول : ما كان هذا الكلام إلا كذبا.
والثاني : أن يقال إن كلمة (أن) جاءت هاهنا بمعنى اللام، والتقدير : ما كان هذا القرآن ليفترى من دون اللَّه، كقوله : وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة : ١٢٢] ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ... وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران : ١٧٩] أي لم يكن ينبغي لهم أن يفعلوا ذلك، فكذلك ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى، أي ليس وصفه وصف شيء يمكن أن يفترى به على اللَّه، لأن المفترى هو الذي يأتي به البشر، والقرآن معجز لا يقدر عليه البشر، والافتراء افتعال من فريت الأديم إذا قدرته للقطع، ثم استعمل في الكذب كما استعمل قولهم : اختلف فلان هذا الحديث في الكذب، فصار حاصل هذا الكلام أن هذا القرآن لا يقدر عليه أحد إلا اللَّه عز وجل، ثم إنه تعالى احتج على هذه الدعوى بأمور :
النوع الأول : قوله : وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وتقرير هذه الحجة من وجوه : أحدها : أن محمدا عليه السلام كان رجلا أميا ما سافر إلى بلدة لأجل التعلم، وما كانت مكة بلدة العلماء، وما كان فيها شيء من كتب العلم، ثم إنه عليه السلام أتى بهذا القرآن، فكان هذا القرآن مشتملا على أقاصيص الأولين، والقوم كانوا في غاية العداوة له، فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التوراة والإنجيل لقدحوا فيه ولبالغوا في الطعن فيه، ولقالوا له إنك جئت بهذه الأقاصيص لا كما ينبغي، فلما لم يقل أحد ذلك مع شدة حرصهم على الطعن


الصفحة التالية
Icon