مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٧٢
ثم قال تعالى : وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهذا وإن كان في صورة الاستعلام فالمراد منه تعظيم وعيد من يفتري على اللَّه. وقرأ عيسى بن عمر وَما ظَنُّ على لفظ الفعل ومعناه أي ظن ظنوه يوم القيامة وجيء به على لفظ الماضي لما ذكرنا أن أحوال القيامة وإن كانت آتية إلا أنها لما كانت واجبة الوقوع في الحكمة ولا جرم عبر اللَّه عنها بصيغة الماضي.
ثم قال : إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي بإعطاء العقل وإرسال الرسل وإنزال الكتب وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ فلا يستعملون للعقل في التأمل في دلائل اللَّه تعالى ولا يقبلون دعوة أنبياء اللَّه ولا ينتفعون باستماع كتب اللَّه.
المسألة الثالثة :(ما) في قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ فيه وجهان : أحدهما : بمعنى الذي فينتصب برأيتم والآخر أن يكون بمعنى أي في الاستفهام، فينتصب بأنزل وهو قول الزجاج، ومعنى أنزل هاهنا خلق وأنشأ كقوله : وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر : ٦] وجاز أن يعبر عن الخلق بالإنزال، لأن كل ما في الأرض من رزق فما أنزل من السماء من ضرع وزرع وغيرهما، فلما كان إيجاده بالإنزال سمي إنزالا.
[سورة يونس (١٠) : آية ٦١]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)
[في قوله تعالى وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه لما أطال الكلام في أمر الرسول بإيراد الدلائل على فساد مذاهب الكفار، وفي أمره بإيراد الجواب عن شبهاتهم، وفي أمره بتحمل أذاهم، وبالرفق معهم ذكر هذا الكلام ليحصل به تمام السلوة والسرور للمطيعين، وتمام الخوف والفزع للمذنبين، وهو كونه سبحانه عالما بعمل كل واحد، وبما في قلبه من الدواعي والصوارف، فإن الإنسان ربما أظهر من نفسه نسكا وطاعة وزهدا وتقوى، ويكون باطنه مملوءا من الخبث وربما كان بالعكس من ذلك فإذا كان الحق سبحانه عالما بما في البواطن كان ذلك من أعظم أنواع السرور للمطيعين ومن أعظم أنواع التهديد للمذنبين.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى خصص الرسول في أول هذه الآية بالخطاب في أمرين، ثم أتبع ذلك بتعميم الخطاب مع كل المكلفين في شيء واحد، أما الأمران المخصوصان بالرسول عليه الصلاة والسلام فالأول : منهما قوله : وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ واعلم أن (ما) هاهنا جحد والشأن الخطب والجمع الشئون، تقول العرب ما شأن فلان أي ما حاله، قال الأخفش : وتقول ما شأنت شأنه أي ما عملت عمله، وفيه وجهان : قال ابن عباس : وما تكون يا محمد في شأن يريد من أعمال البر وقال الحسن : في شأن من شأن الدنيا وحوائجك فيها. والثاني : منهما قوله تعالى : وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ واختلفوا في أن الضمير في قوله : مِنْهُ إلى ماذا يعود؟ وذكروا فيه ثلاثة أوجه : الأول : أنه راجع إلى الشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، بل هو معظم / شأنه، وعلى هذا التقدير، فكان هذا داخلا تحت قوله : وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ إلا أنه خصه بالذكر تنبيها على علو مرتبته، كما في قوله تعالى : وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة : ٩٨] وكما في قوله :


الصفحة التالية
Icon