مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٨٣
الصلاة والسلام لما لم يتعلم علما، ولم يطالع كتابا ثم ذكر هذه الأقاصيص من غير تفاوت، ومن غير زيادة ومن غير نقصان، دل ذلك على أنه صلى اللَّه عليه وسلم إنما عرفها بالوحي والتنزيل.
واعلم أنه تعالى ذكر في هذه السورة من قصص الأنبياء عليهم السلام ثلاثة.
فالقصة الأولى : قصة نوح عليه السلام، وهي المذكورة في هذه الآية، وفيها وجهان من الفائدة : الأول :
أن قوم نوح عليه السلام لما أصروا على الكفر والجحد عجل اللَّه هلاكهم بالغرق فذكر اللَّه تعالى قصتهم لتصير تلك القصة عبرة لهؤلاء الكفار، وداعية إلى مفارقة الجحد بالتوحيد والنبوة. والثاني : أن كفار مكة كانوا يستعجلون العذاب الذي يذكره الرسول عليه / السلام لهم وكانوا يقولون له كذبت، فإنه ما جاءنا هذا العذاب، فاللَّه تعالى ذكر لهم قصة نوح عليه السلام لأنه عليه السلام كان يخوفهم بهذا العذاب وكانوا يكذبونه فيه، ثم بالآخرة وقع كما أخبر فكذا هاهنا.
المسألة الثانية : أن نوحا عليه السلام قال لقومه : إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ وهذا جملة من الشرط والجزاء، أما الشرط فهو مركب من قيدين :
القيد الأول : قوله : إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي قال الواحدي في «البسيط» : يقال كبر يكبر كبرا في السن، وكبر الأمر والشيء إذا عظم يكبر كبرا وكبارة. قال ابن عباس : ثقل عليكم وشق عليكم وعظم أمره عندكم والمقام بفتح الميم مصدر كالإقامة. يقال : أقام بين أظهرهم مقاما وإقامة، والمقام بضم الميم الموضع الذي يقام فيه، وأراد بالمقام هاهنا مكثه ولبثه فيهم وبالجملة فقوله : كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي جار مجرى قولهم :
فلان ثقيل الظل.
واعلم أن سبب هذا الثقل أمران : أحدهما : أنه عليه السلام مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما.
والثاني : أن أولئك الكفار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة والطرائق الباطلة والغالب أن من ألف طريقة في الدين فإنه يثقل عليه أن يدعى إلى خلافها، ويذكر له ركاكتها، فإن اقترن بذلك طول مدة الدعاء كان أثقل وأشد كراهية، فإن اقترن به إيراد الدلائل القاهرة على فساد تلك المذهب كانت النفرة أشد فهذا هو السبب في حصول ذلك الثقل.
والقيد الثاني : هو قوله : وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ.
واعلم أن الطباع المشغولة بالدنيا الحريصة على طلب اللذات العاجلة تكون شديدة النفرة عن الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والمنكرات، قوية الكراهة لسماع ذكر الموت وتقبيح صورة الدنيا ومن كان كذلك فإنه يستثقل الإنسان الذي يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وفي الآية وجه آخر وهو أن يكون قوله :
إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ معناه أنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم ليكون مكانهم ظاهرا وكلامهم مسموعا، كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود.
واعلم أن هذا هو الشرط المذكور في هذه الآية، أما الجزاء ففيه قولان :
القول الأول : أن الجزاء هو قوله : فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ يعني أن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام


الصفحة التالية
Icon