مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٢٩٥
يصدر إلا من الجهال، وهذا كما قال لنوح عليه السلام : إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود : ٤٦].
واعلم أن هذا النهي لا يدل على أن ذلك قد صدر من موسى عليه السلام كما أن قوله : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر : ٦٥] لا يدل على صدور الشرك منه.
البحث الثاني : قال الزجاج : قوله : وَلا تَتَّبِعانِّ موضعه جزم، والتقدير : ولا تتبعا، إلا أن النون الشديدة دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها، وسكون النون التي قبلها فاختير لها الكسرة، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية، وقرأ ابن عامر وَلا تَتَّبِعانِّ بتخفيف النون.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٠ إلى ٩٢]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
[في قوله تعالى وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ إلى قوله وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ] اعلم أن تفسير اللفظ في قوله : وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ [الأعراف : ١٣٨] مذكور في سورة الأعراف، والمعنى : أنه تعالى لما أجاب دعاءهما أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر في الوقت المعلوم ويسر لهم أسبابه، وفرعون كان غافلا عن ذلك، فلما سمع أنهم خرجوا وعزموا على مفارقة مملكته خرج على عقبهم وقوله : فَأَتْبَعَهُمْ أي لحقهم يقال : أتبعه حتى لحقه، وقوله : بَغْياً وَعَدْواً البغي طلب الاستعلاء بغير حق، والعدو الظلم،
روي أن موسى عليه السلام لما خرج مع قومه وصلوا إلى طرف البحر وقرب فرعون مع عسكره منهم، فوقعوا في خوف شديد، لأنهم صاروا بين بحر مغرق وجند مهلك، فأنعم اللَّه عليهم بأن أظهر لهم طريقا في البحر على ما ذكر اللَّه تعالى هذه القصة بتمامها في سائر السور، ثم إن موسى عليه السلام مع أصحابه دخلوا وخرجوا وأبقى اللَّه تعالى ذلك الطريق يبسا، ليطمع فرعون وجوده في التمكن من العبور، فلما دخل مع جمعه أغرقه اللَّه تعالى بأن أوصل أجزاء الماء ببعضها وأزال الفلق،
فهو معنى قوله : فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ وبين ما كان في قلوبهم من البغي وهي محبة الإفراط في قتلهم وظلمهم، والعدو وهو تجاوز الحد، ثم ذكر تعالى أنه لما أدركه الغرق أظهر كلمة الإخلاص ظنا منه أنه ينجيه من تلك الآفة وهاهنا سؤالان :
السؤال الأول : أن الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفظ بهذا اللفظ فكيف حكى اللَّه تعالى عنه أنه ذكر ذلك؟
والجواب : من وجهين : الأول : أن مذهبنا أن الكلام الحقيقي هو كلام النفس لا كلام اللسان فهو إنما ذكر هذا الكلام بالنفس، لا بكلام اللسان، ويمكن أن يستدل بهذه الآية على إثبات كلام النفس لأنه تعالى حكى عنه أنه قال هذا الكلام، وثبت بالدليل أنه ما قاله باللسان، فوجب الاعتراف بثبوت كلام غير كلام اللسان وهو المطلوب. الثاني : أن يكون المراد من الغرق مقدماته.
السؤال الثاني : أنه آمن ثلاث مرات أولها قوله : آمَنْتُ وثانيها قوله : لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وثالثها قوله : وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فما السبب في عدم القبول واللَّه تعالى متعال عن أن يلحقه غيظ


الصفحة التالية
Icon