مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٣٠١
والوجه الرابع : في تقرير هذا المعنى أن تقول : المقصود من ذكر هذا الكلام استمالة قلوب الكفار وتقريبهم من قبول الإيمان، وذلك لأنهم طالبوه مرة بعد أخرى، بما يدل على صحة نبوته وكأنهم استحيوا من تلك المعاودات والمطالبات، وذلك الاستحياء صار مانعا لهم عن قبول الإيمان فقال تعالى : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ من نبوتك فتمسك بالدلائل القلائل، يعني أولى الناس بأن لا يشك / في نبوته هو نفسه، ثم مع هذا إن طلب هو من نفسه دليلا على نبوة نفسه بعد ما سبق من الدلائل الباهرة والبينات القاهرة فإنه ليس فيه عيب ولا يحصل بسببه نقصان، فإذا لم يستقبح منه ذلك في حق نفسه فلأن لا يستقبح من غيره طلب الدلائل كان أولى، فثبت أن المقصود بهذا الكلام استمالة القوم وإزالة الحياء عنهم في تكثير المناظرات.
الوجه الخامس : أن يكون التقدير أنك لست شاكا ألبتة ولو كنت شاكا لكان لك طرق كثيرة في إزالة ذلك الشك كقوله تعالى : لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء : ٢٢] والمعنى أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعا، لزم منه المحال الفلاني فكذا هاهنا ولو فرضنا وقوع هذا الشك فارجع إلى التوراة والإنجيل لتعرف بهما أن هذا الشك زائل وهذه الشبهة باطلة.
الوجه السادس : قال الزجاج : إن اللَّه خاطب الرسول في قوله : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ وهو شامل للخلق وهو كقوله : يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق : ١] قال : وهذا أحسن الأقاويل، قال القاضي : هذا بعيد لأنه متى كان الرسول داخلا تحت هذا الخطاب فقد عاد السؤال، سواء أريد معه غيره أو لم يرد وإن جاز أن يراد هو مع غيره، فما الذي يمنع أن يراد بانفراده كما يقتضيه الظاهر، ثم قال : ومثل هذا التأويل يدل على قلة التحصيل.
الوجه السابع : هو أن لفظ (إن) في قوله : فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ للنفي أي ما كنت في شك قبل يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك لكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى يقينا.
وأما الوجه الثاني : وهو أن يقال هذا الخطاب ليس مع الرسول فتقريره أن الناس في زمانه كانوا فرقا ثلاثة، المصدقون به والمكذبون له والمتوقفون في أمره الشاكون فيه، فخاطبهم اللَّه تعالى بهذا الخطاب فقال :
إن كنت أيها الإنسان في شك مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحة نبوته، وإنما وحد اللَّه تعالى ذلك وهو يريد الجمع، كما في قوله : يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ [الانفطار : ٦، ٧] ويا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ [الانشقاق : ٦] وقوله : فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ [الزمر : ٤٩] ولم يرد في جميع هذه الآيات إنسانا بعينه، بل المراد هو الجماعة فكذا هاهنا ولما ذكر اللَّه تعالى لهم ما يزيل ذلك الشك عنهم حذرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني وهم المكذبون فقال : وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن المسؤول منه في قوله : فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ من هم؟ فقال المحققون هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد اللَّه بن سلام، وعبد اللَّه بن صوريا، وتميم / الداري، وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم، ومنهم من قال : الكل سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار، لأنهم إذا بلغوا عدد التواتر ثم قرءوا آية من التوراة والإنجيل، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدم محمد صلى اللَّه عليه وسلم فقد حصل الغرض.
فإن قيل : إذا كان مذهبكم أن هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير، فكيف يمكن التعويل عليها.


الصفحة التالية
Icon