مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٣٠٦
إلا بتخليقه وتكوينه والرجس الذي يقابل الإيمان ليس إلا الكفر، فثبت دلالة هذه الآية على أن الكفر والإيمان من اللَّه تعالى.
أجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال : الرجس، يحتمل وجهين آخرين : أحدهما : أن يكون المراد منه العذاب، فقوله : وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي يلحق العذاب بهم كما قال : وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ [الفتح : ٦] والثاني : أنه تعالى يحكم عليهم بأنهم رجس كما قال : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة : ٢٨] والمعنى أن الطهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم.
والجواب : أنا قد بينا بالدليل العقلي أن الجهل لا يمكن أن يكون فعلا للعبد لأنه لا يريده ولا يقصد إلى تكوينه، وإنما يريد ضده، وإنما قصد إلى تحصيل ضده، فلو كان به لما حصل إلا ما قصده وأوردنا السؤالات على هذه الحجة وأجبنا عنها فيما سلف من هذا الكتاب. وأما حمل الرجس على العذاب، فهو باطل، لأن الرجس عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره، فحمل هذا اللفظ على جهلهم وكفرهم أولى من حمله على عذاب اللَّه مع كونه حقا صدقا صوابا، وأما حمل لفظ الرجس على حكم اللَّه برجاستهم، فهو في غاية البعد، لأن حكم اللَّه تعالى بذلك صفته، فكيف يجوز أن يقال إن صفة اللَّه رجس، فثبت أن الحجة التي ذكرناها ظاهرة.
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠١]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١)
[في قوله تعالى قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وحمزة قُلِ انْظُرُوا بكسر اللام لالتقاء الساكنين والأصل فيه الكسر، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللام.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى لما بين في الآيات السالفة أن الإيمان لا يحصل إلا بتخليق اللَّه تعالى ومشيئته، أمر بالنظر والاستدلال في الدلائل حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال : قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
واعلم أن هذا يدل على مطلوبين : الأول : أنه لا سبيل إلى معرفة اللَّه تعالى إلا بالتدبر في الدلائل كما
قال عليه الصلاة والسلام :«تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخلق»
والثاني : وهو أن الدلائل إما أن تكون من عالم السموات أو من عالم الأرض، أما الدلائل السماوية، فهي حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها وما فيها من الشمس والقمر والكواكب، وما يختص به كل واحد منها من المنافع والفوائد، وأما الدلائل الأرضية، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية، وفي أحوال المعادن وأحوال النبات وأحوال الإنسان خاصة، ثم ينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها. ولو أن الإنسان أخذ يتفكر في كيفية حكمة اللَّه سبحانه في تخليق جناح بعوضة لا نقطع عقله قبل أن يصل إلى أقل مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد. ولا شك أن اللَّه سبحانه أكثر من ذكر هذه الدلائل في القرآن المجيد، فلهذا السبب ذكر قوله : قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ولم يذكر التفصيل، فكأنه تعالى نبه على القاعدة الكلية، حتى إن العاقل يتنبه لأقسامها وحينئذ يشرع في تفصيل حكمة كل واحد منها بقدر القوة العقلية والبشرية، ثم إنه تعالى لما أمر بهذا التفكر والتأمل بين


الصفحة التالية
Icon