مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٣١٥
البحث الأول : أن الضمير في قوله : مِنْهُ عائد إلى الحكيم الخبير، والمعنى : إنني لكم نذير وبشير من جهته.
البحث الثاني : أن قوله : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مشتمل على المنع عن عبادة غير اللَّه، وعلى الترغيب في عبادة اللَّه تعالى، فهو عليه الصلاة والسلام نذير على الأول بإلحاق العذاب الشديد لمن لم يأت بها وبشير على الثاني بإلحاق الثواب العظيم لمن أتى بها.
واعلم أنه صلى اللَّه عليه وسلم ما بعث إلا لهذين الأمرين، وهو الإنذار على فعل ما لا ينبغي، والبشارة على فعل ما ينبغي.
[في قوله تعالى وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إلى قوله وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ] المرتبة الثانية : من الأمور المذكورة في هذه الآية قوله : وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ.
والمرتبة الثالثة : قوله : ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ واختلفوا في بيان الفرق بين هاتين المرتبتين على وجوه :
الوجه الأول : أن معنى قوله : وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم، ثم بين الشيء الذي يطلب به ذلك وهو التوبة، فقال : ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ لأن الداعي إلى التوبة والمحرض عليها هو الاستغفار الذي هو عبارة عن طلب المغفرة وهذا يدل على أنه لا سبيل إلى طلب المغفرة من عند اللَّه إلا بإظهار التوبة، والأمر في الحقيقة كذلك، لأن المذنب معرض عن طريق الحق، والمعرض والمتمادي في التباعد ما لم يرجع عن ذلك الإعراض لا يمكنه التوجه إلى المقصود بالذات، فالمقصود بالذات هو التوجه إلى المطلوب إلا أن ذلك لا يمكن إلا بالإعراض عما يضاده، فثبت أن الاستغفار مطلوب بالذات، وأن التوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، وما كان آخرا في الحصول كان أولا في الطلب، فلهذا السبب قدم ذكر الاستغفار على التوبة.
الوجه الثاني : في فائدة هذا الترتيب أن المراد : استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا إليه في المستأنف.
الوجه الثالث : وأن استغفروا من الشرك والمعاصي، ثم توبوا من الأعمال الباطلة.
الوجه الرابع : الاستغفار طلب من اللَّه لإزالة ما لا ينبغي والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي، فقدم الاستغفار ليدل على أن المرء يجب أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي / يقدر على تحصيله، ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة لأنها عمل يأتي به الإنسان ويتوسل به إلى دفع المكروه والاستعانة بفضل اللَّه تعالى مقدمة على الاستعانة بسعي النفس.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه المراتب الثلاثة ذكر بعدها ما يترتب عليها من الآثار النافعة والنتائج المطلوبة، ومن المعلوم أن المطالب محصورة في نوعين، لأنه إما أن يكون حصولها في الدنيا أو في الآخرة، أما المنافع الدنيوية : فهي المراد من قوله : يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهذا يدل على أن المقبل على عبادة اللَّه والمشتغل بها يبقى في الدنيا منتظم الحال مرفه البال، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : أليس أن
النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال :«الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»
وقال أيضا :«خص البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل»
وقال تعالى : وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ [الزخرف : ٣٣] فهذه النصوص دالة على أن نصيب المشتغل بالطاعات في الدنيا هو الشدة والبلية. ومقتضى هذه الآية أن نصيب المشتغل بالطاعات الراحة في الدنيا فكيف الجمع بينهما؟