مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٣٢١
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول صلى اللَّه عليه وسلم بقولهم : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ فحكى عنهم في هذه الآية نوعا آخر من أباطيلهم وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول صلى اللَّه عليه وسلم به أخذوا في الاستهزاء ويقولون : ما السبب الذي حبسه عنا؟
فأجاب اللَّه تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه اللَّه لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزؤن به لم ينصرف ذلك العذاب عنهم وأحاط بهم ذلك العذاب. بقي هاهنا سؤالات :
السؤال الأول : المراد من هذا العذاب هو عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة؟
الجواب : للمفسرين فيه وجوه : الأول : قال الحسن : معنى حكم اللَّه في هذه الآية أنه لا يعذب أحدا منهم بعذاب الاستئصال وأخر ذلك إلى يوم القيامة، فلما أخر اللَّه عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء ما الذي حبسه عنا؟ والثاني : أن المراد الأمر بالجهاد وما نزل بهم يوم بدر، وعلى هذا الوجه تأولوا قوله : وَحاقَ بِهِمْ أي نزل بهم هذا العذاب يوم بدر.
السؤال الثاني : ما المراد بقوله : إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ.
الجواب من وجهين : الأول : أن الأصل في الأمة هم الناس والفرقة فإذا قلت : جاءني أمة من الناس.
فالمراد طائفة مجتمعة قال تعالى : وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص : ٢٣] وقوله : وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف : ٤٥] أي بعد انقضاء أمة وفنائها فكذا هاهنا قوله : وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي إلى حين تنقضي أمة من الناس انقرضت بعد هذا الوعيد بالقول، لقالوا ماذا يحبسه عنا وقد انقرض من الناس الذين كانوا متوعدين بهذا الوعيد؟ وتسمية الشيء باسم ما يحصل فيه كقولك : كنت عند فلان صلاة العصر، أي في ذلك الحين. الثاني : أن اشتقاق الأمة من الأم، وهو القصد، كأنه يعني الوقت المقصود بإيقاع هذا الموعود فيه.
السؤال الثالث : لم قال : وَحاقَ على لفظ الماضي مع أن ذلك لم يقع؟
والجواب : قد مر في هذا الكتاب آيات كثيرة من هذا الجنس، والضابط فيها أنه تعالى أخبر عن أحوال القيامة بلفظ الماضي مبالغة في التأكيد والتقرير.
[سورة هود (١١) : الآيات ٩ إلى ١١]
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١١)
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن عذاب أولئك الكفار وإن تأخر إلا أنه لا بد وأن يحيق بهم، ذكر بعده ما يدل على كفرهم، وعلى كونهم مستحقين لذلك العذاب فقال : وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ الْإِنْسانَ في هذه الآية فيه قولان :
القول الأول : أن المراد منه مطلق الإنسان ويدل عليه وجوه : الأول : أنه تعالى استثنى منه قوله : إِلَّا


الصفحة التالية
Icon