مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٣٣٤
الملائكة والأنبياء فكيف يمكن حمل اللفظ عليه، وأما قوله إن ذلك محمول على أنهم كانوا يستثقلون سماع كلام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإبصار صورته.
فالجواب أنه تعالى نفى الاستطاعة فحمله على معنى آخر خلاف الظاهر، وأيضا أن حصول ذلك الاستثقال إما أن يمنع من الفهم والوصول إلى الغرض أو لم يمنع، فإن منع فهو المقصود، وإن لم يمنع منه فحينئذ كان ذلك سببا أجنبيا عن المعاني المعتبرة في الفهم والإدراك، ولا تختلف أحوال القلب في العلم والمعرفة بسببه، فكيف يمكن جعله ذما لهم في هذا المعرض، وأيضا قد بينا مرارا كثيرة في هذا الكتاب أن حصول الفعل مع قيام الصارف محال، فلما بين تعالى كون هذا المعنى صارفا عن قبول الدين الحق وبين فيه أنه حصل حصولا على سبيل اللزوم بحيث لا يزول ألبتة في ذلك الوقت كان المكلف في ذلك الوقت ممنوعا عن الإيمان، وحينئذ يحصل المطلوب، وأما قوله فإنا نجعل هذه الصفة من صفة الأوثان فبعيد لأنه تعالى قال : يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ثم قال : ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فوجب أن يكون الضمير في هذه الآية المتأخرة عائدا إلى عين ما عاد إليه الضمير المذكور في هذه الآية الأولى. وأما قوله : وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فقيل : المراد منه البصيرة، وقيل : المراد منه أنهم عدلوا عن إبصار ما يكون حجة لهم.
الصفة الثانية عشرة : قوله : أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
ومعناه أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة اللَّه تعالى فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران.
الصفة الثالثة عشرة : قوله : وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
والمعنى أنهم لما باعوا الدين بالدنيا فقد خسروا، لأنهم أعطوا الشريف، ورضوا بأخذ الخسيس، وهذا عين الخسران في الدنيا ثم في الآخرة فهذا الخسيس يضيع ويهلك ولا يبقى منه أثر، وهو المراد بقوله : وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
الصفة الرابعة عشرة : قوله : لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وتقريره ما تقدم، وهو أنه لما أعطى الشريف الرفيع ورضي بالخسيس الوضيع فقد خسر في التجارة. ثم لما كان هذا الخسيس بحيث لا يبقى بل لا بد وأن يهلك ويفنى انقلبت تلك التجارة إلى النهاية في صفة الخسارة، فلهذا قال : لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وقوله لا جَرَمَ قال الفراء : إنها بمنزلة قولنا لا بد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا، تقول العرب : لا جرم أنك محسن، على معنى حقا إنك محسن، وأما النحويون فلهم فيه وجوه : الأول : لا حرف نفي وجزم، أي قطع، فإذا قلنا : لا جرم معناه أنه لا قطع قاطع عنهم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. الثاني : قال الزجاج إن كلمة لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، وجَرَمَ معناه كسب ذلك الفعل، والمعنى : لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة، وذكرنا جَرَمَ بمعنى كسب في تفسير قوله تعالى : لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة : ٢] قال الأزهري، وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب، الثالث : قال سيبويه والأخفش : لا رد على أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح، والتأويل أنه حق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم. واحتج سيبويه بقول الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزاة بعدها أن يغضبوا
أراد حقت الطعنة فزارة أن يغضبوا.


الصفحة التالية
Icon