مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٣٣٧
الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات، فهذا خلاصة الكلام في تقرير هذه الشبهات.
واعلم أن الشبهة الأولى لا تليق إلا بالبراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق، أما الشبهتان الباقيتان فيمكن أن يتمسك بهما من أقر بنبوة سائر الأنبياء، وفي لفظ الآية مسائل :
المسألة الأولى : الملأ الأشراف وفي اشتقاقه وجوه : الأول : أنه مأخوذ من قولهم مليء بكذا إذا كان مطيقا له وقد ملئوا بالأمر، والسبب في إطلاق هذا اللفظ عليهم أنهم ملئوا بترتيب المهمات / وأحسنوا في تدبيرها.
الثاني : أنهم وصفوا بذلك لأنهم يتمالؤون أي يتظاهرون عليه. الثالث : وصفوا بذلك لأنهم يملؤون القلوب هيبة والمجالس أبهة. الرابع : وصفوا به لأنهم ملؤوا العقول الراجحة والآراء الصائبة.
ثم حكى اللَّه تعالى عنهم الشبهة الأولى، وهي قولهم : ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وهو مثل ما حكى اللَّه تعالى عن بعض العرب أنهم قالوا : لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام : ٨] وهذا جهل، لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدليل والبرهان والتثبت والحجة، لا بالصورة والخلقة، بل نقول : إن اللَّه تعالى لو بعث إلى البشر ملكا لكانت الشبهة أقوى في الطعن عليه في رسالته لأنه يخطر بالبال أن هذه المعجزات التي ظهرت لعل هذا الملك هو الذي أتى بها من عند نفسه بسبب أن قوته أكمل وقدرته أقوى، فلهذه الحكمة ما بعث اللَّه إلى البشر رسولا إلا من البشر.
ثم حكى الشبهة الثانية وهي قوله : وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ والمراد منه قلة ما لهم وقلة جاههم ودناءة حرفهم وصناعتهم هذا أيضا جهل، لأن الرفعة في الدين لا تكون بالحسب والمال والمناصب العالية، بل الفقر أهون على الدين من الغنى، بل نقول : الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف تجعل قلة المال في الدنيا طعنا في النبوة والرسالة.
ثم حكى اللَّه تعالى الشبهة الثالثة وهي قوله : وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وهذا أيضا جهل، لأن الفضيلة المعتبرة عند اللَّه ليست إلا بالعلم والعمل، فكيف اطلعوا على بواطن الخلق حتى عرفوا نفي هذه الفضيلة، ثم قالوا بعد ذكر هذه الشبهات لنوح عليه السلام ومن اتبعه بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ وفيه وجهان : الأول :
أن يكون هذا خطابا مع نوح ومع قومه، والمراد منه تكذيب نوح في دعوى الرسالة. والثاني : أن يكون هذا خطابا مع الأراذل فنسبوهم إلى أنهم كذبوا في أن آمنوا به واتبعوه.
المسألة الثانية : قال الواحدي : الأرذل جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته ورجل رذل الثياب والفعل. والأراذل جمع الأرذل، كقولهم أكابر مجرميها، وقوله عليه الصلاة والسلام :«أحاسنكم أخلاقا»
فعلى هذا الأراذل جمع الجمع، وقال بعضهم : الأصل فيه أن يقال : هو أرذل من كذا ثم كثر حتى قالوا : هو الأرذل فصارت الألف واللام عوضا عن الإضافة وقوله : بادِيَ الرَّأْيِ البادي هو الظاهر من قولك :
بدا الشيء إذا ظهر، ومنه يقال : بادية لظهورها وبروزها للناظر، واختلفوا في بادي الرأي وذكروا فيه وجوها :
الأول : اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه، والثاني : يجوز أن يكون المراد اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي وما احتاطوا في / ذلك الرأي وما أعطوه حقه من الفكر الصائب والتدبر الوافي. الثالث : أنهم لما وصفوا القوم


الصفحة التالية
Icon