مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٣٤٦
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه كان يقول : إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ وفيه وجوه :
الأول : التقدير إن تسخروا منا في هذه الساعة فإنا نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والخزي في الآخرة. الثاني : إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط اللَّه تعالى وعذابه فأنتم أولى بالسخرية منا. الثالث : أن تستجهلونا فإنا نستجهلكم واستجهالكم أقبح وأشد، لأنكم لا تستجهلون إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر والاغترار بظاهر الحال كما هو عادة الأطفال والجهال.
فإن قيل : السخرية من آثار المعاصي فكيف يليق ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قلنا : إنه تعالى سمى المقابلة سخرية كما في قوله تعالى : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : ٤٠].
أما قوله تعالى : فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة، وفي قوله : مَنْ يَأْتِيهِ وجهان : أحدهما : أن يكون استفهاما بمعنى أي كأنه قيل : فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب، وعلى هذا الوجه فمحل «من» رفع بالابتداء. والثاني : أن / يكون بمعنى الذي ويكون في محل النصب، وقوله تعالى : وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ أي يجب عليه وينزل به.
[سورة هود (١١) : آية ٤٠]
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (٤٠)
[في قوله تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» حَتَّى هي التي يبتدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء ووقعت غاية لقوله : وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي فكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد.
المسألة الثانية : الأمر في قوله تعالى : حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا يحتمل وجهين : الأول : أنه تعالى بين أنه لا يحدث شيء إلا بأمر اللَّه تعالى كما قال : إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل : ٤٠] فكان المراد هذا. والثاني : أن يكون المراد من الأمر هاهنا هو العذاب الموعد به.
المسألة الثالثة : في التنور قولان : أحدهما : أنه التنور الذي يخبز فيه. والثاني : أنه غيره، أما الأول وهو أنه التنور الذي يخبز فيه فهو قول جماعة عظيمة من المفسرين كابن عباس والحسن ومجاهد. وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من قال : إنه تنور لنوح عليه السلام، وقيل : كان لآدم قال الحسن : كان تنورا من حجارة، وكان لحواء حتى صار لنوح عليه السلام، واختلفوا في موضعه فقال الشعبي : إنه كان بناحية الكوفة، وعن علي رضي اللَّه عنه أنه في مسجد الكوفة، قال : وقد صلى فيه سبعون نبيا،
وقيل بالشام بموضع يقال له : عين ووردان وهو قول مقاتل وقيل : فار التنور بالهند، وقيل : إن امرأته كانت تخبز في ذلك التنور فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في الحال بوضع تلك الأشياء في السفينة.
القول الثاني : ليس المراد من التنور تنور الخبز، وعلى هذا التقدير ففيه أقوال : الأول : أنه انفجر الماء من وجه الأرض كما قال : فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر :
١١، ١٢] والعرب تسمي وجه الأرض تنورا. الثاني : أن التنور أشرف موضع في الأرض وأعلى مكان فيها وقد أخرج إليه


الصفحة التالية
Icon