مفاتيح الغيب، ج ١٧، ص : ٣٥١
فأجابوا عنه من وجوه : الأول : أنه كان ينافق أباه فظن نوح أنه مؤمن فلذلك ناداه ولولا ذلك لما أحب نجاته. والثاني : أنه عليه السلام كان يعلم أنه كافر، لكنه ظن أنه لما شاهد الغرق والأهوال العظيمة فإنه يقبل الإيمان فصار قوله : يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان وتأكد هذا بقوله : وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أي تابعهم في الكفر واركب معنا. والثالث : أن شفقة الأبوة لعلها حملته على ذلك النداء، والذي تقدم من قوله : إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ كان كالمجمل فلعله عليه السلام جوز أن لا يكون هو داخلا فيه.
القول الثاني :
أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر
وقول الحسن البصري ويروى أن عليا رضي اللَّه عنه قرأ ونادى نوح ابنها
والضمير لامرأته. وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير ابنه بفتح الهاء
يريد أن ابنها إلا أنهما اكتفيا بالفتحة عن الألف، وقال قتادة سألت الحسن عنه فقال : واللَّه ما كان ابنه فقلت : إن اللَّه حكى عنه أنه قال : إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود : ٤٥] وأنت تقول : ما كان ابنا له، فقال : لم يقل : إنه مني ولكنه قال من أهلي وهذا يدل على قولي.
القول الثالث : أنه ولد على فراشه لغير رشدة، والقائلون بهذا القول احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط فخانتاهما وهذا قول خبيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو على خلاف نص القرآن. أما قوله تعالى : فَخانَتاهُما فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه. قيل لابن عباس رضي اللَّه عنهما : ما كانت تلك الخيانة، فقال :/ كانت امرأة نوح تقول : زوجي مجنون، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به. ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب قوله تعالى : الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النور : ٢٦] وأيضا قوله تعالى : الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور : ٣] وبالجملة فقد دللنا على أن الحق هو مقول الأول.
وأما قوله : وَكانَ فِي مَعْزِلٍ فاعلم أن المعزل في اللغة معناه : موضع منقطع عن غيره، وأصله من العزل، وهو التنحية والإبعاد. تقول : كنت بمعزل عن كذا، أي بموضع قد عزل منه.
واعلم أن قوله : وَكانَ فِي مَعْزِلٍ لا يدل على أنه في معزل من أي شيء فلهذا السبب ذكروا وجوها :
الأول : أنه كان في معزل من السفينة لأنه كان يظن أن الجبل يمنعه من الغرق. الثاني : أنه كان في معزل عن أبيه وإخوته وقومه : الثالث : أنه كان في معزل من الكفار كأنه انفرد عنهم فظن نوح عليه السلام أن ذلك إنما كان لأنه أحب مفارقتهم.
أما قوله : يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فنقول : قرأ حفص عن عاصم يا بُنَيَّ بفتح الياء في جميع القرآن والباقون بالكسر. قال أبو علي : الوجه الكسر وذلك أن اللام من ابن ياء أو واو فإذا صغرت ألحقت ياء التحقير، فلزم أن ترد اللام المحذوفة وإلا لزم أن تحرك ياء التحقير بحركات الإعراب لكنها لا تحرك لأنها لو حركت لزم أن تنقلب كما تنقلب سائر حروف المد واللين إذا كانت حروف إعراب، نحو عصا وقفا ولو انقلبت بطلت دلالتها على التحقير ثم أضفت إلى نفسك اجتمعت ثلاث آيات. الأولى : منها للتحقير. والثانية :
لام الفعل. والثالثة : التي للإضافة تقول : هذا بني فإذا ناديته صار فيه وجهان : إثبات الياء وحذفها والاختيار


الصفحة التالية
Icon