مفاتيح الغيب، ج ١٨، ص : ٤٣١
المسألة الثالثة :
عن الحسن أنه سئل النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن قوله : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ فقال :«صبر لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر»
ويدل عليه من القرآن قوله تعالى : نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف : ٨٦] وقال مجاهد :
فصبر جميل، أي من غير جزع، وقال الثوري : من الصبر أن لا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك، ولا تزكي نفسك، وهاهنا بحث وهو أن الصبر على قضاء اللَّه تعالى واجب فأما الصبر على ظلم الظالمين، ومكر الماكرين فغير واجب، بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير، وهاهنا أن إخوة يوسف لما ظهر كذبهم وخيانتهم فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولم لم يبالغ في التفتيش والبحث سعيا منه في تخليص يوسف عليه السلام عن البلية والشدة إن كان في الأحياء وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه، فثبت أن الصبر في المقام مذموم.
ومما يقوي هذا السؤال أنه عليه الصلاة والسلام كان عالما بأنه حي سليم لأنه قال له : وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يوسف : ٦] والظاهر أنه إنما قال هذا الكلام من الوحي وإذا كان عالما بأنه حي سليم فكان من الواجب أن يسعى في طلبه. وأيضا إن يعقوب عليه السلام كان رجلا عظيم القدر في نفسه، وكان من بيت عظيم شريف، وأهل العلم كانوا يعرفونه ويعتقدون فيه ويعظمونه فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في أنه / عليه السلام مع شدة رغبته في حضور يوسف عليه السلام، ونهاية حبه له لم يطلبه مع أن طلبه كان من الواجبات، فثبت أن هذا الصبر في هذا المقام مذموم عقلا وشرعا.
والجواب عنه : أن نقول لا جواب عنه إلا أن يقال إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة عليه، وتغليظا للأمر عليه، وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص، وأنه لو بالغ في البحث فربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضا لعله عليه السلام علم أن اللَّه تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة، ثم لم يرد هتك أستار سرائر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم فإنه يحترق قلبه على الولد الذي ينتقم منه، فلما وقع يعقوب عليه السلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر إلى اللَّه تعالى بالكلية.
المسألة الرابعة : قوله تعالى : فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يدل على أن الصبر على قسمين منه ما قد يكون جميلا وما قد يكون غير جميل، فالصبر الجميل هو أن يعرف أن منزل ذلك البلاء هو اللَّه تعالى، ثم يعلم أن اللَّه سبحانه مالك الملك ولا اعتراض على المالك في أن يتصرف في ملك نفسه فيصير استغراق قلبه في هذا المقام مانعا له من إظهار الشكاية.
والوجه الثاني : أنه يعلم أن منزل هذا البلاء، حكيم لا يجهل، وعالم لا يغفل، عليم لا ينسى رحيم لا يطغى، وإذا كان كذلك، فكان كل ما صدر عنه حكمة وصوابا، فعند ذلك يسكت ولا يعترض.
والوجه الثالث : أنه ينكشف له أن هذا البلاء من الحق، فاستغراقه في شهود نور المبلى يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء ولذلك قيل : المحبة التامة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء، لأنها لو ازدادت


الصفحة التالية
Icon