مفاتيح الغيب، ج ١٨، ص : ٤٤٣
الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل، فقد ظهر بحمد اللَّه تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين، ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين.
واعلم أن بعض الحشوية
روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال :«ما كذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات»
فقلت الأولى أن لا نقبل مثل هذه الأخبار فقال على طريق الاستنكار فإن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة فقلت له :
يا مسكين إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم عليه السلام وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة ولا شك أن صون إبراهيم عليه السلام عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب.
إذا عرفت هذا الأصل فنقول للواحدي : ومن الذي يضمن لنا أن الذين نقلوا هذا القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين أم كاذبين، واللَّه أعلم.
المسألة الثانية : في أن المراد بذلك البرهان ما هو أما المحققون المثبتون للعصمة فقد فسروا رؤية البرهان بوجوه : الأول : أنه حجة اللَّه تعالى في تحريم الزنا والعلم بما على الزاني من العقاب والثاني : أن اللَّه تعالى طهر نفوس الأنبياء عليهم السلام عن الأخلاق الذميمة. بل نقول : إنه تعالى طهر نفوس المتصلين به عنها كما قال :
إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب : ٣٣] فالمراد برؤية البرهان هو حصول تلك الأخلاق وتذكير الأحوال الرادعة لهم عن الإقدام على المنكرات. والثالث : أنه رأى مكتوبا في سقف البيت وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء : ٣٢] والرابع : أنه النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، والدليل عليه أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا لمنع الخلق عن القبائح والفضائح فلو أنهم منعوا الناس عنها، ثم أقدموا على أقبح أنواعها وأفحش أقسامها لدخلوا تحت قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ [الصف : ٢، ٣] / وأيضا أن اللَّه تعالى عير اليهود بقوله : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة : ٤٤] وما يكون عيبا في حق اليهود كيف ينسب إلى الرسول المؤيد بالمعجزات.
وأما الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عليه السلام فقد ذكروا في تفسير ذلك البرهان أمورا : الأول : قالوا إن المرأة قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب فقال يوسف : لم فعلت ذلك؟
قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على معصية، فقال يوسف : أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت فو اللَّه لا أفعل ذلك أبدا قالوا : فهذا هو البرهان. الثاني : نقلوا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه تمثل له يعقوب فرآه عاضا على أصابعه ويقول له : أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء فاستحى منه. قال وهو قول عكرمة ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين قال سعيد بن جبير : تمثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله. والثالث :
قالوا إنه سمع في الهواء قائلا يقول يا ابن يعقوب لا تكن كالطير يكون له ريش فإذا زنا ذهب ريشه. والرابع :
نقلوا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن يوسف عليه السلام لم ينزجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل عليه السلام فلم يبق فيه شيء من الشهوة إلا خرج، ولما نقل الواحدي هذه الروايات تصلف وقال : هذا الذي ذكرناه قول أئمة التفسير الذين أخذوا التأويل عمن شاهد التنزيل فيقال له : إنك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات


الصفحة التالية
Icon