مفاتيح الغيب، ج ١٨، ص : ٥٢٧
من السرعة والبطء ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون لها بحسب كل لحظة ولمحة حالة أخرى ما كانت حاصلة قبل ذلك.
والقول الثاني : أن المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة، وعند مجيء ذلك اليوم تنقطع هذه الحركات وتبطل تلك السيرات كما وصف اللَّه تعالى ذلك في قوله : إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير : ١، ٢] وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الإنشقاق : ١]، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الإنفطار : ١] وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [القيامة : ٩] وهو كقوله سبحانه وتعالى : ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام : ٢] ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الدلائل قال : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وكل واحد من المفسرين حمل هذا على تدبير نوع آخر من أحوال العالم والأولى حمله على الكل فهو يدبرهم بالإيجاد والإعدام وبالإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، ويدخل فيه إنزال الوحي وبعثة الرسل وتكليف العباد، وفيه دليل عجيب على كمال القدرة والرحمة وذلك لأن هذا العالم المعلوم من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى أنواع وأجناس لا يحيط بها إلا اللَّه تعالى، والدليل المذكور دل على أن اختصاص كل واحد منها بوضعه وموضعه وصفته وطبيعته وحليته، ليس إلا من اللَّه تعالى ومن المعلوم أن كل من اشتغل بتدبير شيء فإنه لا يمكنه تدبير شيء آخر إلا الباري سبحانه وتعالى فإنه لا يشغله شأن عن شأن أما العاقل فإنه إذا تأمل في هذه الآية علم أنه تعالى يدبر عالم الأجسام وعالم الأرواح ويدبر الكبير كما يدبر الصغير فلا يشغله شأن عن شأن ولا يمنعه تدبير عن تدبير وذلك يدل على أنه تعالى في ذاته وصفاته وعلمه وقدرته غير مشابه للمحدثات والممكنات.
ثم قال : يُفَصِّلُ الْآياتِ وفيه قولان : الأول : أنه تعالى بين الآيات الدالة على إلهيته وعلمه وحكمته.
والثاني : أن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان : أحدهما : الموجودات الباقية الدائمة كالأفلاك والشمس والقمر والكواكب، وهذا النوع من الدلائل هو الذي تقدم ذكره. والثاني : الموجودات الحادثة المتغيرة، وهي الموت بعد الحياة، والفقر بعد الغنى، والهرم بعد الصحة، وكون الأحمق في أهنأ العيش، والعاقل الذكي في أشد الأحوال، فهذا النوع من الموجودات والأحوال دلالتها على وجود الصانع الحكيم ظاهرة باهرة. وقوله :
يُفَصِّلُ الْآياتِ إشارة إلى أنه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز والتفصيل.
ثم قال : لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ واعلم أن الدلائل المذكورة كما تدل على وجود الصانع الحكيم فهي أيضا تدل على صحة القول بالحشر والنشر لأن من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها على عظمتها وكثرتها فلأن يقدر على الحشر والنشر كان أولى
يروى أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب رضوان اللَّه عليه أنه تعالى كيف/ يحاسب الخلق دفعة واحدة فقال كما يرزقهم الآن دفعة واحدة وكما يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة.
وحاصل الكلام أنه تعالى كما قدر على إبقاء الأجرام الفلكية والنيرات الكوكبية في الجو العالي وإن كان الخلق عاجزين عنه، وكما يمكنه أن يدبر من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن فكذلك يحاسب الخلق بحيث لا يشغله شأن عن شأن ومن الأصحاب من تمسك بلفظ اللقاء على رؤية اللَّه تعالى وقد مر تقريره في هذا الكتاب مرارا وأطوارا.
تم الجزء الثامن عشر، ويليه إن شاء اللَّه تعالى الجزء التاسع عشر، وأوله قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ من سورة الرعد. أعان اللَّه على إكماله.