مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١١٩
قلوبهم طلب الزيادات كما قال : وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الحجر : ٤٧] واللّه أعلم.
أما قوله تعالى : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : المعنى : دع الكفار يأخذوا حظوظهم من دنياهم فتلك أخلاقهم ولا خلاق لهم في الآخرة وقوله : وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ يقال : لهيت عن الشيء ألهي لهيا، وجاء في الحديث أن ابن / الزبير كان إذا سمع صوت الرعد لهى عن حديثه. قال الكسائي والأصمعي : كل شيء تركته فقد لهيت عنه وأنشد :
صرمت حبالك فاله عنها زينب ولقد أطلت عتابها لو تعتب
فقوله فاله عنها أي اتركها وأعرض عنها. قال المفسرون : شغلهم الأمل عند الأخذ بحظهم عن الإيمان والطاعة فسوف يعلمون.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون له مفسدة في الدين، والدليل عليه أنه تعالى قال لرسوله : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فحكم بأن إقبالهم على التمتع واستغراقهم في طول الأمل يلهيهم عن الإيمان والطاعة ثم إنه تعالى أذن لهم فيها، وذلك يدل على المقصود. قالت المعتزلة : ليس هذا إذنا وتجويزا بل هذا تهديد ووعيد.
قلنا ظاهر قوله : ذَرْهُمْ إذن أقصى ما في الباب أنه تعالى نبه على أن إقبالهم على هذه الأعمال يضرهم في دينهم، وهذا عين ما ذكرناه من أنه تعالى أذن في شيء مع أنه نص على كون ذلك الشيء مفسدة لهم في الدين.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن إيثار التلذذ والتنعم وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين، وعن بعضهم التمرغ في الدنيا من أخلاق الهالكين، والأخبار في ذم الأمل كثيرة فمنها ما
روي عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال :«يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنان : الحرص على المال وطول الأمل»
وعنه صلّى اللّه عليه وسلم أنه نقط ثلاث وقال :«هذا ابن آدم، وهذا الأمل، وهذا الأجل، ودون الأمل تسع وتسعون منية فإن أخذته إحداهن، وإلا فالهرم من ورائه»
وعن علي عليه السلام أنه قال : إنما أخشى عليكم اثنين : طول الأمل واتباع الهوى، فإن طول الأمل ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصد عن الحق.
واللّه أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٤ إلى ٥]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥)
[في قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ] وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما توعد من قبل من كذب الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بقوله : ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أتبعه بما يؤكد الزجر وهو قوله تعالى : وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ في الهلاك والعذاب وإنما يقع فيه التقديم والتأخير فالذين تقدموا كان وقت هلاكهم في الكتاب معجلا، والذين تأخروا كان وقت هلاكهم في الكتاب مؤخرا وذلك نهاية في الزجر والتحذير.


الصفحة التالية
Icon