مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٢١
ولزم التسلسل، وإن كان هو اللّه تعالى فحينئذ يعود البحث إلى أن فعل العبد إنما تعين وتقدر بتخصيص اللّه تعالى، وحينئذ لا يعود الإلزام.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن كل من مات أو قتل فإنما مات بأجله، وأن من قال : يجوز أن يموت قبل أجله فمخطىء.
فإن قالوا : هذا الاستدلال إنما يتم إذا حملنا قوله : وَما أَهْلَكْنا على الموت أما إذا حملناه على عذاب الاستئصال فكيف يلزم.
قلنا : قوله : وَما أَهْلَكْنا إما أن يدخل تحته الموت أو لا يدخل، فإن دخل فالاستدلال ظاهر لازم وإن لم يدخل فنقول : إن ما لأجله وجب في عذاب الاستئصال أن لا يتقدم ولا يتأخر عن وقته المعين قائم في الموت، فوجب أن يكون الحكم هاهنا كذلك، واللّه أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٦ إلى ٩]
وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تهديد الكفار ذكر بعده شبههم في إنكار نبوته.
فالشبهة الأولى : أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون، وفيه احتمالات : الأول : أنه عليه السلام كان يظهر عليه عند نزول الوحي حالة شبيهة بالغشي فظنوا أنها جنون، والدليل عليه قوله : وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [القلم : ٥١، ٥٢] وأيضا قوله : أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ [الأعراف : ١٨٤]. والثاني : أنهم كانوا يستبعدون كونه رسولا حقا من عند اللّه تعالى، فالرجل إذا سمع كلاما مستبعدا من غيره فربما قال له هذا جنون وأنت مجنون لبعد ما يذكره من طريقة العقل، وقوله : إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ في هذه الآية يحتمل الوجهين.
أما قوله : يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ففيه وجهان : الأول : أنهم ذكروه على سبيل الاستهزاء كما قال فرعون : إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء : ٢٧] وكما قال قوم شعيب :
إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود : ٨٧] وكما قال تعالى : فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران : ٢١] لأن البشارة بالعذاب ممتنعة. والثاني : يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ في زعمه واعتقاده، وعند أصحابه وأتباعه.
ثم حكى عنهم أنهم قالوا في تقرير شبههم : لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : المراد لو كنت صادقا في ادعاء النبوة لأتيتنا بالملائكة يشهدون عندنا بصدقك فيما تدعيه من الرسالة، لأن المرسل الحكيم إذا حاول تحصيل أمر، وله طريق يفضي إلى تحصيل ذلك المقصود قطعا، وطريق آخر قد يفضي وقد لا يفضي، ويكون في محل الشكوك والشبهات، فإن كان ذلك الحكيم أراد تحصيل ذلك المقصود، فإنه يحاول تحصيله بالطريق الأول لا بالطريق الثاني، وإنزال الملائكة الذين يصدقونك،


الصفحة التالية
Icon