مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٢٣
المسألة الأولى : أن القوم إنما قالوا : يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر : ٦] لأجل أنهم سمعوا
النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يقول :«إن اللّه تعالى نزل الذكر على»
ثم إنه تعالى حقق قوله في هذه الآية فقال : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
فأما قوله : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ فهذه الصيغة وإن كانت للجمع إلا أن هذا من كلام الملوك عند إظهار التعظيم فإن الواحد منهم إذا فعل فعلا أو قال قولا قال : إنا فعلنا كذا وقلنا كذا فكذا هاهنا.
المسألة الثانية : الضمير في قوله : لَهُ لَحافِظُونَ إلى ماذا يعود؟ فيه قولان :
القول الأول : أنه عائد إلى الذكر يعني : وإنا نحفظ ذلك الذكر من التحريف والزيادة والنقصان، ونظيره قوله تعالى في صفة القرآن : لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت : ٤٢] وقال : وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء : ٨٢].
فإن قيل : فلم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف وقد وعد اللّه تعالى بحفظه وما حفظه اللّه فلا خوف عليه.
والجواب : أن جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ اللّه تعالى إياه فإنه تعالى لما أن حفظه قيضهم لذلك قال أصحابنا : وفي هذه الآية دلالة قوية على كون التسمية آية من أول كل سورة لأن اللّه تعالى قد وعد بحفظ القرآن، والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا من الزيادة والنقصان، فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كان القرآن مصونا عن التغيير، ولما كان محفوظا عن الزيادة ولو جاز أن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أيضا أن يظن بهم النقصان، وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة.
والقول الثاني : أن الكناية في قوله : لَهُ راجعة إلى محمد صلّى اللّه عليه وسلم والمعنى وإنا لمحمد لحافظون وهو قول الفراء، وقوى ابن الأنباري هذا القول فقال : لما ذكر اللّه الإنزال والمنزل دل ذلك على المنزل عليه فحسنت الكناية عنه، لكونه أمرا معلوما كما في قوله تعالى : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر : ١] فإن هذه الكناية عائدة إلى القرآن مع أنه لم يتقدم ذكره وإنما حسنت الكناية للسبب المعلوم فكذا هاهنا، إلا أن القول الأول أرجح القولين وأحسنهما مشابهة لظاهر التنزيل واللّه أعلم.
المسألة الثالثة : إذا قلنا الكناية عائدة إلى القرآن فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن قال بعضهم :
حفظه بأن جعله معجزا مباينا لكلام البشر فعجز الخلق عن الزيادة فيه والنقصان عنه لأنهم لو زادوا فيه أو نقصوا عنه لتغير نظم القرآن فيظهر لكل العقلاء أن هذا ليس من القرآن فصار كونه معجزا كإحاطة السور بالمدينة لأنه يحصنها ويحفظها، وقال آخرون : إنه تعالى صانه / وحفظه من أن يقدر أحد من الخلق على معارضته، وقال آخرون : أعجز الخلق عن إبطاله وإفساده بأن قيض جماعة يحفظونه ويدرسونه ويشهرونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاء التكليف، وقال آخرون : المراد بالحفظ هو أن أحدا لو حاول تغييره بحرف أو نقطة لقال له أهل الدنيا :
هذا كذب وتغيير لكلام اللّه تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن أو هفوة في حرف من كتاب اللّه تعالى لقال له كل الصبيان : أخطأت أيها الشيخ وصوابه كذا وكذا، فهذا هو المراد من قوله : وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
واعلم أنه لم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الحفظ، فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف والتحريف


الصفحة التالية
Icon