مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٢٦
وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به، ثم إنه / لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل اللّه تعالى كالهدر الضائع، وصار الكافر والشيطان كالغالب الدافع، وإذا كان كذلك كان ذكر النون المشعر بالعظمة والجلالة في قوله : نَسْلُكُهُ غير لائق بهذا المقام، فثبت بهذا التأويل الذي ذكروه فاسد.
والوجه الثاني : أنه لو كان المراد ما ذكروه لوجب أن يقال : كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ولا يؤمنون به، أي ومع هذا السعي العظيم في تحصيل إيمانهم لا يؤمنون أما لم يذكر الواو فعلمنا أن قوله : لا يُؤْمِنُونَ بِهِ كالتفسير، والبيان لقوله : نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ وهذا إنما يصح إذا كان المراد أنا نسلك الكفر والضلال في قلوبهم.
والوجه الثالث : أن قوله : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر : ٩] بعيد، وقوله : يَسْتَهْزِؤُنَ قريب، وعود الضمير إلى أقرب المذكورات هو الواجب. أما قوله : لو كان الضمير في قوله : نَسْلُكُهُ عائدا إلى الاستهزاء لكان في قوله، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عائدا إليه، وحينئذ يلزم التناقض.
قلنا : الجواب عنه من وجوه :
الوجه الأول : أن مقتضى الدليل عود الضمير إلى أقرب المذكورات، ولا مانع من اعتبار هذا الدليل في الضمير الأول وحصل المانع من اعتباره في الضمير الثاني فلا جرم قلنا : الضمير الأول عائد إلى الاستهزاء، والضمير الثاني عائد إلى الذكر، وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة ليس بقليل في القرآن، أليس أن الجبائي والكعبي والقاضي قالوا في قوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف : ١٨٩، ١٩٠] فقالوا هذه الضمائر من أول الآية إلى قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ عائدة إلى آدم وحواء، وأما في قوله : جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ عائدة إلى غيرهما، فهذا ما اتفقوا عليه في تفاسيرهم، وإذا ثبت هذا ظهر أنه لا يلزم من تعاقب الضمائر عودها إلى شيء واحد بل الأمر فيه موقوف على الدليل فكذا هاهنا واللّه أعلم.
الوجه الثاني : في الجواب قال بعض الأدباء من أصحابنا قوله : لا يُؤْمِنُونَ بِهِ تفسير للكناية في قوله :
نَسْلُكُهُ والتقدير : كذلك نسلك في قلوب المجرمين أن لا يؤمنوا به والمعنى نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به.
والوجه الثالث : وهو أنا بينا بالبراهين العقلية القاهرة أن حصول الإيمان والكفر يمتنع أن يكون بالعبد، وذلك لأن كل أحد إنما يريد الإيمان والصدق، والعلم والحق، وأن أحدا / لا يقصد تحصيل الكفر والجهل والكذب فلما كان كل أحد لا يقصد إلا الإيمان والحق ثم إنه لا يحصل ذلك، وإنما يحصل الكفر والباطل، علمنا أن حصول ذلك الكفر ليس منه.
فإن قالوا : إنما حصل ذلك الكفر لأنه ظن أنه هو الإيمان : فنقول : فعلى هذا التقدير إنما رضي بتحصيل ذلك الجهل لأجل جهل آخر سابق عليه فينقل الكلام إلى ذلك الجهل السابق فإن كان ذلك لأجل جهل آخر لزم


الصفحة التالية
Icon