مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٢٩
حد نفاذه في الصحو، فهذه أقوال أربعة في تفسير سُكِّرَتْ وهي في الحقيقة متقاربة، واللّه أعلم.
المسألة الثانية : قال الجبائي : من جوز قدرة السحرة على أن يأخذوا بأعين الناس حتى يروهم الشيء على خلاف ما هو عليه لم يصح إيمانه بالأنبياء والرسل، وذلك لأنهم إذا جوزوا ذلك فلعل / هذا الذي يرى أنه محمد بن عبد اللّه ليس هو ذلك الرجل وإنما هو شيطان، ولعل هذه المعجزات التي نشاهدها ليس لها حقائق، بل هي تكون من باب الآراء الباطلة من ذلك الساحر، وإذا حصل هذا التجويز بطل الكل. واللّه أعلم.
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ١٦ إلى ١٨]
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨)
اعلم أنه تعالى لما أجاب عن شبهة منكري النبوة، وكان قد ثبت أن القول بالنبوة مفرع على القول بالتوحيد أتبعه تعالى بدلائل التوحيد. ولما كانت دلائل التوحيد منها سماوية، ومنها أرضية، بدأ منها بذكر الدلائل السماوية، فقال : وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ قال الليث : البرج واحد من بروج الفلك، والبروج جمع وهي اثنا عشر برجا، ونظيره قوله تعالى : تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [الفرقان : ٦١] وقال : وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [البروج : ١] ووجه دلالتها على وجود الصانع المختار، هو أن طبائع هذه البروج مختلفة على ما هو متفق عليه بين أرباب الأحكام، وإذا كان الأمر كذلك فالفلك مركب من هذه الأجزاء المختلفة في الماهية والأبعاض المختلفة في الحقيقة، وكل مركب فلا بد له من مركب يركب تلك الأجزاء والأبعاض بحسب الاختيار والحكمة، فثبت أن كون السماء مركبة من البروج يدل على وجود الفاعل المختار، وهو المطلوب، وأما قوله : وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ فقد استقصينا الكلام فيه في سورة الملك في تفسير قوله تعالى : وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك : ٥] فلا نعيد هاهنا إلا القدر الذي لا بد منه قوله :
وَزَيَّنَّاها أي بالشمس والقمر والنجوم لِلنَّاظِرِينَ أي للمعتبرين بها والمستدلين بها على توحيد صانعها وقوله : وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ.
فإن قيل : ما معنى وحفظناها من كل شيطان رجيم، والشيطان لا قدرة له على هدم السماء فأي حاجة إلى حفظ السماء منه.
قلنا : لما منعه من القرب منها، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان فحفظ اللّه السماء منهم كما قد / يحفظ منازلنا عن متجسس يخشى منه الفساد ثم نقول : معنى الرجم في اللغة الرمي بالحجارة. ثم قيل للقتل رجم تشبيها له بالرجم بالحجارة، والرجم أيضا السب والشتم لأنه رمي بالقول القبيح ومنه قوله : لَأَرْجُمَنَّكَ أي لأسبنك، والرجم اسم لكل ما يرمى به، ومنه قوله : وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك : ٥] أي مرامي لهم، والرجم القول بالظن، ومنه قوله : رَجْماً بِالْغَيْبِ [الكهف : ٢٢] لأنه يرميه بذلك الظن والرجم أيضا اللعن والطرد، وقوله الشيطان الرجيم، قد فسروه بكل هذه الوجوه. قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : كانت الشياطين، لا تحجب عن السموات، فكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها إلى الكهنة،


الصفحة التالية
Icon