مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٣٢
نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ
[الحجر : ٢١].
والوجه الثاني : في تفسير هذا اللفظ أن هذا العالم عالم الأسباب واللّه تعالى إنما يخلق المعادن والنبات والحيوان بواسطة تركيب طبائع هذا العالم، فلا بد وأن يحصل من الأرض قدر مخصوص / ومن الماء والهواء كذلك، ومن تأثير الشمس والكواكب في الحر والبرد مقدار مخصوص، ولو قدرنا حصول الزيادة على ذلك القدر المخصوص، أو النقصان عنه لم تتولد المعادن والنبات والحيوان فاللّه سبحانه وتعالى قدرها على وجه مخصوص بقدرته وعلمه وحكمته فكأنه تعالى وزنها بميزان الحكمة حتى حصلت هذه الأنواع.
والوجه الثالث : في تفسير هذا اللفظ أن أهل العرف يقولون : فلان موزون الحركات أي حركات متناسبة حسنة مطابقة للحكمة، وهذا الكلام كلام موزون إذا كان متناسبا حسنا بعيدا عن اللغو والسخف فكان المراد منه أنه موزون بميزان الحكمة والعقل، وبالجملة فقد جعلوا لفظ الموزون كناية عن الحسن والتناسب، فقوله :
وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي متناسب محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة ومطابقة المصلحة.
والوجه الرابع : في تفسير هذا اللفظ أن صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ
] وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب.
المسألة الثانية : ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أول لها، وإذا ثبت هذا ظهر وجوب انتهاء الحوادث إلى حادث أول هو أول الحوادث، وإذا كان كذلك فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس، وإذا كان كذلك فذلك الإنسان الأول غير مخلوق مع الأبوين فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة اللّه تعالى. فقوله : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إشارة إلى ذلك الإنسان الأول، والمفسرون أجمعوا على أن المراد منه هو آدم عليه السلام، ونقل في «كتب الشيعة» عن محمد بن علي الباقر عليه السلام أنه قال : قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر
وأقول : هذا لا يقدح في حدوث العالم بل لأمر كيف كان، فلا بد من الانتهاء إلى إنسان أول هو أول الناس وأما أن ذلك الإنسان هو أبونا آدم، فلا طريق إلى إثباته إلا من جهة السمع.
واعلم أن الجسم محدث، فوجب القطع بأن آدم عليه السلام وغيره من الأجسام يكون مخلوقا عن عدم محض، وأيضا دل قوله تعالى : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران : ٥٩] على أن آدم مخلوق من تراب، ودلت آية أخرى على أنه مخلوق من الطين، وهي قوله : إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص : ٧١] وجاء في هذه الآية أن آدم عليه السلام مخلوق من صلصال من حمأ مسنون، والأقرب أنه تعالى خلقه أولا من تراب ثم من طين ثم من حمأ مسنون ثم من صلصال كالفخار، ولا شك أنه تعالى قادر على خلقه من أي جنس من الأجسام كان، بل هو قادر على خلقه ابتداء، وإنما خلقه على هذا الوجه إما لمحض المشيئة أو لما فيه من دلالة الملائكة ومصلحتهم ومصلحة الجن، لأن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه.
المسألة الثالثة : في الصلصال قولان : قيل الصلصال الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فهو فخار. قالوا : إذا توهمت في صوته مدا فهو صليل، وإذا توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة. قال


الصفحة التالية
Icon