مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٤٠
فقوله : وَلَهُ يَسْجُدُونَ يفيد الحصر، وذلك يدل على أنهم لا يسجدون إلا للّه تعالى وذلك ينافي كونهم ساجدين لآدم عليه السلام أو لأحد غير اللّه تعالى أقصى ما في الباب أن يقال : إن قوله تعالى : فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ يفيد العموم، إلا أن الخاص مقدم على العام. وثالثها : أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى كما نفخ الروح في آدم عليه السلام وجب على الملائكة أن يسجدوا له، لأن قوله : فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ مذكور بفاء التعقيب وذلك يمنع من التراخي وقوله : فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ قال الخليل وسيبويه قوله : كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ توكيد بعد توكيد، وسئل المبرد عن هذه الآية فقال : لو قال فسجد الملائكة احتمل أن يكون سجد بعضهم، فلما قال : كُلُّهُمْ زال هذا الاحتمال فظهر أنهم بأسرهم سجدوا، ثم بعد هذا بقي احتمال آخر وهو أنهم سجدوا دفعة واحدة أو سجد كل واحد منهم في وقت آخر فلما قال :
أَجْمَعُونَ ظهر أن الكل سجدوا دفعة واحدة، ولما حكى الزجاج هذا القول عن المبرد قال : وقول الخليل وسيبويه أجود، لأن أجمعين معرفة فلا يكون حالا وقوله : إِلَّا إِبْلِيسَ أجمعوا على أن إبليس كان مأمورا بالسجود لآدم، واختلفوا في أنه هل كان من الملائكة أم لا؟ وقد سبقت هذه المسألة بالاستقصاء في سورة البقرة وقوله : أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ استئناف وتقديره أن قائلا قال : هلا سجد فقيل : أبى ذلك واستكبر عنه.
أما قوله : قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ فاعلم أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله :
قالَ يا إِبْلِيسُ أي قال اللّه تعالى له يا إبليس وهذا يقتضي أنه تعالى تكلم معه، فعند هذا قال / بعض المتكلمين : إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس على لسان بعض رسله، إلا أن هذا ضعيف، لأن إبليس قال في الجواب : لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ فقوله : خَلَقْتَهُ خطاب الحضور لا خطاب الغيبة، وظاهره يقتضي أن اللّه تعالى تكلم مع إبليس بغير واسطة وأن إبليس تكلم مع اللّه تعالى بغير واسطة، وكيف يعقل هذا مع أن مكالمة اللّه تعالى بغير واسطة من أعظم المناصب وأشرف المراتب، فكيف يعقل حصوله لرأس الكفرة ورئيسهم، ولعل الجواب عنه أن مكالمة اللّه تعالى إنما تكون منصبا عاليا إذا كان على سبيل الإكرام والإعظام، فأما إذا كان على سبيل الإهانة والإذلال فلا، وقوله : لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فيه بحثان :
البحث الأول : اللام في قوله : لِأَسْجُدَ لتأكيد النفي، ومعناه : لا يصح مني أن أسجد لبشر.
البحث الثاني : معنى هذا الكلام أن كونه بشرا يشعر بكونه جسما كثيفا وهو كان روحانيا لطيفا، فالتفرقة حاصلة بينهما في الحال من هذا الوجه. كأنه يقول : البشر جسماني كثيف له بشرة، وأنا روحاني لطيف، والجسماني الكثيف أدون حالا من الروحاني اللطيف، والأدون كيف يكون مسجودا للأعلى، وأيضا أن آدم مخلوق من صلصال تولد من حمإ مسنون، فهذا الأصل في غاية الدناءة وأصل إبليس هو النار وهي أشرف العناصر، فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدون، فالكلام الأول إشارة إلى الفرق الحاصل بسبب البشرية والروحانية، وهو فرق حاصل في الحال والكلام الثاني إشارة إلى الفرق الحاصل بحسب العنصر والأصل، فهذا مجموع شبهة إبليس وقوله تعالى : قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فهذا ليس جوابا عن تلك الشبهة على سبيل التصريح، ولكنه جواب عنها على سبيل التنبيه. وتقريره أن الذي قاله اللّه تعالى نص، والذي قاله إبليس قياس، ومن عارض النص


الصفحة التالية
Icon