مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٤٢
فإن قيل : لما أجابه اللّه تعالى إلى مطلوبه لزم أن لا يموت إلى وقت قيام الساعة وبعد قيام القيامة لا يموت أيضا، فيلزم أن يندفع عنه الموت بالكلية.
قلنا : يحمل قوله : إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إلى ما يكون قريبا منه. والوقت الذي يموت فيه كل المكلفين قريب من يوم البعث، وعلى هذا الوجه فيرجع حاصل هذا الكلام إلى الوجه الأول. وثالثها : أن المراد بيوم الوقت المعلوم يوم لا يعلمه إلا اللّه تعالى، وليس المراد منه يوم القيامة.
فإن قيل : إنه لا يجوز أن يعلم المكلف متى يموت، لأن فيه إغراء بالمعاصي، وذلك لا يجوز على اللّه تعالى.
أجيب عنه بأن هذا الإلزام إنما يتوجه إذا كان وقت قيام القيامة معلوما للمكلف. فأما إذا علم أنه تعالى أمهله إلى وقت قيام القيامة إلا أنه تعالى ما أعلمه الوقت الذي تقوم القيامة فيه فلم يلزم منه الإغراء بالمعاصي.
وأجيب عن هذا الجواب بأنه وإن لم يعلم الوقت الذي فيه تقوم القيامة على التعيين إلا أنه علم في الجملة أن من وقت خلقة آدم عليه الصلاة والسلام إلى وقت قيام القيامة مدة طويلة فكأنه قد علم أنه لا يموت في تلك المدة الطويلة.
أما قوله تعالى : قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ففيه بحثان :
البحث الأول : الباء في بِما أَغْوَيْتَنِي للقسم وما مصدرية، وجواب القسم لأزينن. والمعنى أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم، ونظيره قوله تعالى : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص : ٨٢] إلا أنه في ذلك الموضع أقسم بعزة اللّه، وهي من صفات الذات، وفي قوله : بِما أَغْوَيْتَنِي أقسم بإغواء اللّه وهو من صفات الأفعال. والفقهاء قالوا : القسم بصفات الذات صحيح، أما بصفات الأفعال فقد اختلفوا فيه. ونقل الواحدي عن قوم آخرين أنهم قالوا : الباء هاهنا بمعنى السبب، أي بسبب كوني غاويا لأزينن كقول القائل، أقسم فلان بمعصيته ليدخلن النار، وبطاعته ليدخلن الجنة.
البحث الثاني : اعلم أن أصحابنا قد احتجوا بهذه الآية على أنه تعالى قد يريد خلق الكفر في الكافر ويصده عن الدين ويغويه عن الحق من وجوه : الأول : أن إبليس استمهل وطلب البقاء إلى قيام القيامة مع أنه صرح بأنه إنما يطلب هذا الإمهال والإبقاء لإغواء بني آدم وإضلالهم وأنه تعالى أمهله وأجابه إلى هذا المطلوب، ولو كان تعالى يراعي مصالح المكلفين في الدين لما أمهله هذا الزمان الطويل، ولما مكنه من الإغواء والإضلال والوسوسة. الثاني : أن أكابر الأنبياء والأولياء مجدون ومجتهدون في إرشاد الخلق إلى الدين الحق، وأن إبليس ورهطه وشيعته مجدون / ومجتهدون في الضلال والإغواء، فلو كان مراد اللّه تعالى هو الإرشاد والهداية لكان من الواجب إبقاء المرشدين والمحققين وإهلاك المضلين والمغوين، وحيث فعل بالضد منه، علمنا أنه أراد بهم الخذلان والكفر. الثالث : أنه تعالى لما أعلمه بأنه يموت على الكفر وأنه ملعون إلى يوم الدين كان ذلك إغراء له بالكفر والقبيح، لأنه أيس عن المغفرة والفوز بالجنة يجترئ حينئذ على أنواع المعاصي والكفر. الرابع : أنه لما سأل اللّه تعالى هذا العمر الطويل، مع أنه تعالى علم منه أنه لا يستفيد من هذا العمر الطويل إلا زيادة الكفر والمعصية، وبسبب تلك الزيادة يزداد استحقاقه لأنواع العذاب الشديد كان هذا الإمهال سببا لمزيد عذابه،


الصفحة التالية
Icon