مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٤٤
وثانيها : المراد كما أضللتني عن طريق الجنة أضلهم أنا أيضا عنه بالدعاء إلى المعصية. وثالثها : أن يكون المراد بالإغواء الأول الخيبة، وبالثاني الإضلال. ورابعها : أن المراد بإغواء اللّه تعالى إياه هو أنه أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيه، يعني أنه حصل ذلك الغي عقيبه باختيار إبليس، فأما أن يقال : إن ذلك الأمر صار موجبا لذاته لحصول ذلك الغي، فمعلوم أنه ليس الأمر كذلك، هذا جملة كلام القوم في هذا الباب وكله ضعيف، أما قوله إنه لا يتفاوت الحال بسبب وسوسة إبليس فنقول : هذا باطل، ويدل عليه القرآن والبرهان، أما القرآن فقوله تعالى : فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ [البقرة : ٣٦] فأضاف تلك الزلة إلى الشيطان، وقال : فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه : ١١٧] فأضاف الإخراج إليه، وقال موسى عليه السلام : هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [القصص : ١٥] وكل ذلك يدل على أن لعمل الشيطان في تلك الأفعال أثرا، وأما البرهان فلأن بداية العقول شاهدة بأنه ليس حال من ابتلى بمجالسة شخص يرغبه أبدا في القبائح. وينفره عن الخيرات، مثل شخص كان حاله بالضد منه، والعلم بهذا التفاوت ضروري. وأما قوله إن وجوده يصير سببا لزيادة المشقة في الطاعة / فنقول : تأثير زيادة المشقة إنما هو في كثرة الثواب على أحد التقديرين، وفي الإلقاء في العذاب الشديد على التقدير الثاني وهو التقدير الأكثر الأغلب، وكل من يراعي المصالح، فإنه رعاية هذا التقدير الثاني أولى عنده من رعاية التقدير الأول لأن دفع الضرر العظيم أولى من السعي في طلب النفع الزائد الذي لا حاجة إلى حصوله أصلا، ولما اندفع هذان الجوابان عن هذا السؤال قويت سائر الوجوه المذكورة، وأما قوله : المراد من قوله :
رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي الخيبة عن الرحمة أو الإضلال عن طريق الجنة فنقول : كل هذا بعيد، لأنه هو الذي خيب نفسه عن الرحمة وهو الذي أضل نفسه عن طريق الجنة، لأنه لما أقدم على الكفر باختياره فقد خيب نفسه عن الرحمة، وأضل نفسه عن طريق الجنة فكيف يحسن إضافته إلى اللّه تعالى فثبت أن الإشكالات لازمة وأن أجوبتهم ضعيفة. واللّه أعلم.
وأما قوله : إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن إبليس استثنى المخلصين، لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم، ولا يقبلون منه، وذكرت في مجلس التذكير أن الذي حمل إبليس على ذكر الاستثناء أن لا يصير كاذبا في دعواه فلما احترز إبليس عن الكذب علمنا أن الكذب في غاية الخساسة.
المسألة الثانية : قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : المخلصين بكسر اللام في كل القرآن، والباقون بفتح اللام. وجه القراءة الأولى أنهم الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم عن كل شائب يناقض الإيمان والتوحيد، ومن فتح اللام فمعناه : الذين أخلصهم اللّه بالهداية والإيمان، والتوفيق، والعصمة، وهذه القراءة تدل على أن الإخلاص والإيمان ليس إلا من اللّه تعالى.
المسألة الثالثة : الإخلاص جعل الشيء خالصا عن شائبة الغير فنقول : كل من أتى بعمل فإما أن يكون قد أتى به للّه فقط أو لغير اللّه فقط، أو لمجموع الأمرين، وعلى هذا التقدير الثالث فإما أن يكون طلب رضوان اللّه راجحا أو مرجوحا أو معادلا، والتقدير الرابع أن يأتي به لا لغرض أصلا وهذا محال، لأن الفعل بدون الداعية محال.
أما الأول : فهو الإخلاص في حق اللّه تعالى، لأن الحامل له على ذلك الفعل طلب رضوان اللّه، وما جعل


الصفحة التالية
Icon