مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٤٧
القول الأول : قال الجبائي وجمهور المعتزلة : القائلون بالوعيد المراد بالمتقين هم الذين اتقوا جميع المعاصي. قالوا : لأنه اسم مدح فلا يتناول إلا من يكون كذلك.
والقول الثاني : وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وهو المنقول عن ابن عباس أن المراد الذين اتقوا الشرك باللّه تعالى والكفر به. وأقول : هذا القول هو الحق الصحيح، والذي يدل عليه هو أن المتقى هو الآتي بالتقوى مرة واحدة، كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة واحدة، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة، فكما أنه ليس من شرط الوصف كونه ضاربا وقاتلا كونه آتيا بجميع أنواع الضرب والقتل، فكذلك ليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى، والذي يقوي هذا الكلام أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى، لأن كل فرد من أفراد الماهية فإنه يجب كونه مشتملا على تلك الماهية، فالآتي بالتقوى يجب أن يكون متقيا، فثبت أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يصدق عليه كونه متقيا، ولهذا التحقيق اتفق المفسرون على أن ظاهر الأمر لا يفيد التكرار.
إذا ثبت هذا فنقول : ظاهر قوله : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يقتضي حصول الجنات والعيون / لكل من اتقى عن شيء واحد، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم، وأيضا فإن هذه الآية وردت عقيب قول إبليس : إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر : ٤٠] وعقيب قول اللّه تعالى :
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر : ٤٢] فلأجل هذه الدلائل اعتبرنا الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزيد فيه قيد آخر، لأن تخصيص العام لما كان بخلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق لمقتضى الأصل والظاهر، فثبت أن قوله : إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يتناول جميع القائلين بلا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه قولا واعتقادا سواء كانوا من أهل الطاعة أو من أهل المعصية وهذا تقرير بين، وكلام ظاهر.
المسألة الثانية : قوله تعالى : فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أما الجنات فأربعة لقوله تعالى : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن : ٤٦] ثم قال : وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ [الرحمن : ٤٦] فيكون المجموع أربعة وقوله : وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ يؤكد ما قلناه، لأن من آمن باللّه لا ينفك قلبه عن الخوف من اللّه تعالى وقوله : وَلِمَنْ خافَ يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرة واحدة، وأما العيون فيحتمل أن يكون المراد منها ما ذكر اللّه تعالى في قوله : مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد : ١٥] ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون ينابيع مغايرة لتلك الأنهار.
فإن قيل : أتقولون إن كل واحد من المتقين يختص بعيون، أو تجري تلك العيون من بعض إلى بعض قيل : لا يمتنع كل واحد من الوجهين فيجوز أن يختص كل أحد بعين وينتفع به كل من في خدمته من الحور والولدان، ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهواتهم، ويحتمل أن يكون يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد وقوله : ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ يحتمل أن القائل لقوله : ادْخُلُوها هو اللّه تعالى وأن يكون ذلك القائل بعض ملائكته، وفيه سؤال لأنه تعالى حكم قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون، وإذا كانوا فيها فكيف يمكن أن يقال لهم : ادْخُلُوها.


الصفحة التالية
Icon