مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ١٧٠
والنزول لا يكون إلا بأمر اللّه تعالى، ونظيره قوله تعالى : وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم : ٦٤] وقوله : لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء : ٢٧] وقوله : وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء : ٢٨] وقوله :
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل : ٥] وقوله : لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم : ٦] فكل هذه الآيات دالة على أنهم لا يقدمون على عمل من الأعمال إلا بأمر اللّه تعالى وإذنه، وقوله : عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يريد الأنبياء الذين خصهم اللّه تعالى برسالته، وقوله : أَنْ أَنْذِرُوا قال الزجاج : أَنْ بدل من الروح والمعنى : ينزل الملائكة بأن أنذروا، أي أعلموا الخلائق أنه لا إله إلا أنا، والإنذار هو الإعلام مع التخويف.
المسألة الثالثة : في الآية فوائد : الفائدة الأولى : أن وصول الوحي من اللّه تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بواسطة الملائكة، ومما يقوى ذلك أنه تعالى قال في آخر سورة البقرة : وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة : ٢٨٥] فبدأ بذكر اللّه سبحانه ثم أتبعه بذكر الملائكة، لأنهم هم الذين يتلقون الوحي من اللّه ابتداء من غير واسطة، وذلك الوحي هو الكتب، ثم إن الملائكة يوصلون ذلك الوحي إلى الأنبياء فلا جرم كان الترتيب الصحيح هو الابتداء بذكر اللّه تعالى، ثم بذكر الملائكة، ثم بذكر الكتب وفي الدرجة الرابعة بذكر الرسل.
إذا عرفت هذا فنقول : إذا أوحى اللّه تعالى إلى الملك فعلم ذلك الملك بأن ذلك الوحي وحي اللّه علم ضروري أو استدلالي. وبتقدير أن يكون استدلاليا فكيف الطريق إليه؟ وأيضا الملك إذا بلغ ذلك الوحي إلى الرسول فعلم الرسول بكونه ملكا صادقا لا شيطانا رجيما ضروري أو استدلالي فإن كان استدلاليا فكيف الطريق إليه؟ فهذه مقامات ضيقة، وتمام العلم بها لا يحصل إلا بالبحث عن حقيقة الملك وكيفية وحي اللّه إليه، وكيفية تبليغ الملك ذلك الوحي إلى الرسول. فأما إذا أجرينا هذه الأمور على الكلمات المألوفة صعب المرام وزال النظام، وذلك لأن آيات القرآن ناطقة بأن هذا الوحي والتنزيل إنما حصل من الملائكة أو نقول : هب أن آيات القرآن لم تدل على ذلك إلا أن احتمال كون الأمر كذلك قائم في بديهة العقل.
وإذا عرفت هذا فنقول : لا نعلم كون جبريل عليه السلام صادقا معصوما عن الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم صادق، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل اللّه تعالى، لا من قبل شيطان خبيث، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبريل صادق محق مبرأ عن التلبيس وعن أفعال الشيطان، وحينئذ يلزم الدور، فهذا مقام صعب. أما إذا عرفنا حقيقة النبوة وعرفنا حقيقة الوحي زالت هذه الشبهة بالكلية، واللّه أعلم.
المسألة الرابعة : هذه الآية تدل على أن الروح المشار إليها بقوله : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ليس إلا لمجرد قوله : لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وهذا كلام حق، لأن مراتب السعادات البشرية أربعة : أولها :
النفسانية، وثانيها : البدنية، وفي المرتبة الثالثة : الصفات البدنية التي لا تكون من اللوازم، وفي المرتبة الرابعة :
الأمور المنفصلة عن البدن.
أما المرتبة الأولى : وهي الكمالات النفسانية، فاعلم أن النفس لها قوتان : إحداهما : استعدادها لقبول صور الموجودات من عالم الغيب، وهذه القوة هي القوة المسماة بالقوة النظرية، وسعادة هذه القوة في حصول


الصفحة التالية
Icon