مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ٦٧
تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات إلى النعمة، ولا شك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة اللّه تعالى ومعرفته، فثبت أن الاشتغال بالشكر يوجب مزيد النعم الروحانية، وأما مزيد النعم الجسمانية، فلأن الاستقراء دل على أن من كان اشتغاله بشكر نعم اللّه أكثر، كان وصول نعم اللّه إليه أكثر، وبالجملة فالشكر إنما حسن موقعه، لأنه اشتغال بمعرفة المعبود وكل مقام حرك العبد من عالم الغرور إلى عالم القدس، فهو المقام الشريف العالي الذي يوجب السعادة في الدين والدنيا.
وأما قوله : وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ فالمراد منه الكفران، لا الكفر، لأن الكفر المذكور في مقابلة الشكر ليس إلا الكفران، والسبب فيه أن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة نعمة من اللّه، والجاهل بها جاهل باللّه، والجهل باللّه من أعظم أنواع العقاب والعذاب وأيضا فههنا دقيقة أخرى وهي أن ما سوى الواحد الأحد الحق ممكن لذاته وكل ممكن لذاته فوجوده إنما يحصل بإيجاد الواجب لذاته، وعدمه إنما يحصل بإعدام الواجب لذاته، وإذا كان كذلك فكل ما سوى الحق فهو منقاد للحق مطواع له، وإذا كانت الممكنات بأسرها منقادة للحق سبحانه فكل قلب حضر فيه نور معرفة الحق وشرف جلاله، انقاد لصاحب ذلك القلب ما سواه، لأن حضور ذلك النور في قلبه يستخدم كل ما سواه بالطبع، وإذا خلا القلب عن ذلك النور ضعف وصار خسيسا فيستخدمه كل ما سواه ويستحقره كل ما يغايره فبهذا الطريق الذوقي يحصل العلم بأن الاشتغال بمعرفة الحق يوجب انفتاح أبواب الخيرات في الدنيا والآخرة، وأما الإعراض عن معرفة الحق بالاشتغال بمجرد الجسمانيات يوجب انفتاح أبواب الآفات والمخافات في الدنيا والآخرة.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٨ إلى ٩]
وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩)
اعلم أن موسى عليه السلام لما بين أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا وفي الآخرة، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد، وحصول الآفات في الدنيا والآخرة، بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران أما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران، فلا جرم قال تعالى : وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ والغرض منه بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا لمنافع عائدة إلى المعبود، والذي يدل على أن الأمر كذلك ما ذكره اللّه في قوله : فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ وتفسيره أنه واجب الوجود لذاته واجب الوجود بحسب جميع صفاته واعتباراته، فإنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته، لافتقر رجحان وجوده على عدمه إلى مرجح فلم يكن غنيا، وقد فرضناه غنيا هذا خلف، فثبت أن كونه غنيا يوجب كونه واجب الوجود في ذاته، وإذا ثبت أنه واجب الوجود لذاته، كان أيضا واجب الوجود بحسب جميع كمالاته، إذ لو لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الكمال، لافتقر في حصول ذلك الكمال إلى سبب منفصل، فحينئذ لا يكون غنيا، وقد فرضناه غنيا هذا خلف، فثبت أن ذاته كافية في حصول جميع كمالاته، وإذا كان الأمر كذلك كان حميدا لذاته،


الصفحة التالية
Icon