مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ٧٦
التنزيه، ومن الاستغراق في طلب الدنيا إلى التوجه إلى عالم الآخرة، فمن هذا المقام ينكشف للإنسان مقام النبوة والرسالة.
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ إشارة إلى ما كانت حاصلة لهم من كمالات نفوسهم، وقولهم في آخر الأمر، وعلى اللّه فليتوكل المتوكلون، إشارة إلى تأثير أرواحهم الكاملة في تكميل الأرواح الناقصة فهذه أسرار عالية مخزونة في ألفاظ القرآن، فمن نظر في علم القرآن وكان غافلا عنها كان محروما من أسرار علوم القرآن واللّه أعلم، وفي الآية وجه آخر وهو أن قوله : وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ المراد منه أن الذين يطلبون سائر المعجزات وجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على اللّه تعالى لا عليها، فإن شاء أظهرها وإن شاء لم يظهرها.
وأما قوله في آخر الآية : وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ المراد منه الأمر بالتوكل على اللّه في دفع شر الناس الكفار وسفاهتهم، وعلى هذا التقدير فالتكرار غير حاصل لأن قوله : وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ وارد في موضعين مختلفين بحسب مقصودين متغايرين، وقيل أيضا : الأول : ذكر لاستحداث التوكل. والثاني : للسعي في إبقائه وإدامته واللّه أعلم.
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٣ إلى ١٧]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
[في قوله تعالى وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا] اعلم أنه تعالى لما حكى عن الأنبياء عليهم السلام، أنهم اكتفوا في دفع شرور أعدائهم بالتوكل عليه والاعتماد على حفظه وحياطته، حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا : لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا والمعنى : ليكونن أحد الأمرين لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى ملتنا. والسبب فيه أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين وأهل الباطل يكونون كثيرين والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين، فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة.
فإن قيل : هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودوا فيها.
قلنا : الجواب من وجوه :
الوجه الأول : أن أولئك الأنبياء عليهم السلام إنما نشأوا في تلك البلاد وكانوا من تلك / القبائل وفي أول الأمر ما أظهروا المخالفة مع أولئك الكفار، بل كانوا في ظاهر الأمر معهم من غير إظهار مخالفة فالقوم ظنوا لهذا السبب أنهم كانوا في أول الأمر على دينهم فلهذا السبب قالوا : أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا.