مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ٨٥
اللّه الخلق وقضى بينهم يقول الكافر قد وجد المسلمون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه ويسألونه فعند ذلك يقول هذا القول».
أما قوله : إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ففيه مباحث :
البحث الأول : المراد أن اللّه تعالى وعدكم وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم، وتقرير الكلام أن النفس تدعو إلى هذه الأحوال الدنيوية ولا تتصور كيفية السعادات الأخروية والكمالات النفسانية واللّه يدعو إليها ويرغب فيها كما قال : وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى [الأعلى : ١٧].
البحث الثاني : قوله : وَعْدَ الْحَقِّ من باب إضافة الشيء إلى نفسه كقوله : حَبَّ الْحَصِيدِ [ق : ٩] ومسجد الجامع على قول الكوفيين، والمعنى : وعدكم الوعد الحق، وعلى مذهب البصريين يكون التقدير وعد اليوم الحق أو الأمر الحق أو يكون التقدير وعدكم الحق. ثم ذكر المصدر تأكيدا.
البحث الثالث : في الآية إضمار من وجهين : الأول : أن التقدير إن اللّه وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف ذلك لدلالة تلك الحالة على صدق ذلك الوعد، لأنهم كانوا يشاهدونها وليس وراء العيان بيان ولأنه ذكر في وعد الشيطان الإخلاف فدل ذلك على الصدق في وعد اللّه تعالى. الثاني : أن في قوله :
وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ الوعد يقتضى مفعولا ثانيا وحذف هاهنا للعلم به، والتقدير : ووعدتكم أن لا جنة ولا نار ولا حشر ولا حساب.
أما قوله : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي قدرة ومكنة وتسلط وقهر فأقهركم على الكفر / والمعاصي وألجئكم إليها، إلا أن دعوتكم أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني قال النحويون :
ليس الدعاء من جنس السلطان فقوله : إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ من جنس قولهم ما تحيتهم إلا الضرب، وقال الواحدي : إنه استثناء منقطع، أي لكن دعوتكم وعندي أنه يمكن أن يقال كلمة «إلا» هاهنا استثناء حقيقي، لأن قدرة الإنسان على حمل الغير على عمل من الأعمال تارة يكون بالقهر والقسر، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه، فهذا نوع من أنواع التسلط، ثم إن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وجوارحه، وعلى إزالة العقل عنه كما يقوله العوام والحشوية، ثم قال : فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ يعني ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة، وكنتم سمعتم دلائل اللّه وشاهدتم مجيء أنبياء اللّه تعالى فكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي ولا تلتفتوا إلي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب. وفي الآية مسألتان :
المسألة الأولى : قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أشياء : الأول : أنه لو كان الكفر والمعصية من اللّه تعالى لوجب أن يقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن اللّه قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه. الثاني : ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان وعلى تعويج أعضائه وعلى إزالة العقل عنه كما تقول الحشوية والعوام. الثالث : أن هذه الآية تدل على أن الإنسان لا يجوز ذمه ولومه وعقابه بسبب فعل الغير، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم.


الصفحة التالية
Icon