مفاتيح الغيب، ج ١٩، ص : ٩٠
الحزن بسبب الخوف من زواله وانقضائه، أما إذا علم من حاله أنه باق دائم لا يزول ولا ينقضي فإنه يعظم الفرح بوجدانه ويكمل السرور بسبب الفوز به.
والصفة الثالثة : قوله : وَفَرْعُها فِي السَّماءِ وهذا الوصف يدل على كمال حال تلك الشجرة من وجهين : الأول : أن ارتفاع الأغصان وقوتها في التصاعد يدل على ثبات الأصل ورسوخ العروق. والثاني : أنها متى كانت متصاعدة مرتفعة كانت بعيدة عن عفونات الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمراتها نقية ظاهرة طيبة عن جميع الشوائب.
والصفة الرابعة : قوله : تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها والمراد : أن الشجرة المذكورة كانت موصوفة بهذه الصفة، وهي أن ثمرتها لا بد أن تكون حاضرة دائمة في كل الأوقات، ولا تكون مثل الأشجار التي يكون ثمارها حاضرا في بعض الأوقات دون بعض، فهذا شرح هذه الشجرة التي ذكرها اللّه تعالى في هذا الكتاب الكريم ومن المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة، وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها وتملكها فإنه لا يجوز له أن يتغافل عنها وأن يتساهل في الفوز بها.
إذا عرفت هذا فنقول : معرفة اللّه تعالى والاستغراق في محبته وفي خدمته وطاعته، تشبه هذه الشجرة في هذه الصفات الأربع.
أما الصفة الأولى : وهي كونها طيبة فهي حاصلة، بل نقول : لا طيب ولا لذيذ في الحقيقة إلا هذه المعرفة وذلك لأن اللذة الحاصلة بتناول الفاكهة المعينة إنما حصلت، لأن إدراك تلك الفاكهة أمر ملائم لمزاج البدن، فلأجل حصول تلك الملاءمة والمناسبة حصلت تلك اللذة العظيمة وهاهنا الملائم لجوهر النفس النطقية والروح القدسية، ليس إلا معرفة اللّه تعالى ومحبته والاستغراق في الابتهاج به فوجب أن تكون هذه المعرفة لذيذة جدا، بل نقول : اللذة الحاصلة من إدراك الفاكهة يجب أن تكون أقل حالا من اللذة الحاصلة بسبب إشراق جوهر النفس بمعرفة اللّه وبيان هذا التفاوت من وجوه :
الوجه الأول : أن المدركات المحسوسة إنما تصير مدركة بسبب أن سطح الحاس يلاقي سطح المحسوس فقط، فأما أن يقال إن جوهر المحسوس نفذ في جوهر الحاس فليس الأمر كذلك، لأن الأجسام يمتنع تداخلها أما هاهنا فمعرفة اللّه تعالى وذلك النور وذلك الإشراق صار ساريا في جوهر / النفس متحدا به وكأن النفس عند حصول ذلك الإشراق تصير غير النفس التي كانت قبل حصول ذلك الإشراق فهذا فرق عظيم بين البابين.
والوجه الثاني : في الفرق أن في الالتذاذ بالفاكهة المدرك هو القوة الذائقة، والمحسوس هو الطعم المخصوص وهاهنا المدرك هو جوهر النفس القدسية، والمعلوم والمشعور به هو ذات الحق جل جلاله، وصفات جلاله وإكرامه، فوجب أن تكون نسبة إحدى اللذتين إلى الأخرى كنسبة أحد المدركين إلى الآخر.
الوجه الثالث : في الفرق أن اللذات الحاصلة بتناول الفاكهة الطيبة كلما حصلت زالت في الحال، لأنها كيفية سريعة الاستحالة شديدة التغير، أما كمال الحق وجلاله فإنه ممتنع التغير والتبدل واستعداد جوهر النفس لقبول تلك السعادة أيضا ممتنع التغير، فظهر الفرق العظيم من هذا الوجه.
واعلم أن الفرق بين النوعين يقرب أن يكون من وجوه غير متناهية فليكتف بهذه الوجوه الثلاثة تنبيها