مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٥٢
والوقف هاهنا واجب لوجوه.
أحدها : أن قوله تعالى : وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران : ٧] لو كان معطوفاً على قوله : إِلَّا اللَّهُ لبقي يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ منقطعاً عنه وأنه غير جائز لأنه وحده لا يفيد، لا يقال أنه حال، / لأنا نقول حينئذ يرجع إلى كل ما تقدم، فيلزم أن يكون اللّه تعالى قائلًا : آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وهذا كفر. وثانيها : أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح وثالثها : أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذماً، لكن قد جعله اللّه تعالى ذماً حيث قال : فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران : ٧].
احتجاجهم بالخبر :
وأما الخبر فقد روينا في أول هذه المسألة خبراً يدل على قولنا، وروي أنه عليه السلام قال :«إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء باللّه، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة باللّه»
ولأن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن يكون حقاً،
لقوله عليه السلام «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
احتجاجهم بالمعقول :
وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان. منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة بعقولنا :
كالصلاة والزكاة والصوم، فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، والصوم سعي في كسر الشهوة. ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه : كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة، والرمل، والاضطباع، ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من اللّه تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني، لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة ألبتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضاً أن يكون الأمر كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمرنا اللّه تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارة بما لا نقف على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، بل فيه فائدة أخرى، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه ملتفتاً إليه أبداً، ومتفكراً فيه أبداً، ولباب التكليف إشغال السر بذكر اللّه تعالى والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يعلم اللّه تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له، فيتعبده بذلك تحصيلًا لهذه المصلحة، فهذا ملخص كلام الفريقين في هذا الباب.
هل المراد من الفواتح معلوم :
القول الثاني : قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم، ثم اختلفوا فيه وذكروا وجوهاً. الأول : أنها أسماء السور، وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال القفال : وقد سمت العرب بهذه الحروف


الصفحة التالية
Icon