مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٦٦
نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا
[البقرة : ٢٣] وهاهنا سؤالات : السؤال الأول : طعن بعض الملحدة فيه فقال : إن عنى أنه لا شك فيه عندنا فنحن قد نشك فيه، وإن عنى أنه لا شك فيه عنده فلا فائدة فيه. الجواب : المراد أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب فيه، والأمر كذلك، لأن العرب مع بلوغهم في الفصاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أقصر سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه بلغت هذه الحجة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه. السؤال الثاني : لم قال هاهنا : لا رَيْبَ فِيهِ وفي موضع آخر لا فِيها غَوْلٌ [الصافات : ٤٧]؟ الجواب : لأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكلية عن الكتاب، ولو قلت : لا فيه ريب لأوهم أن هناك كتاباً آخر حصل الريب فيه لا ها هنا، كما قصد في قوله : لا فِيها غَوْلٌ تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا، فإنها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا السؤال الثالث : من أين يدل قوله : لا رَيْبَ فِيهِ على نفي الريب بالكلية؟ الجواب : قرأ أبو الشعثاء لا رَيْبَ فِيهِ بالرفع. واعلم أن القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدليل عليه أن قوله : لا رَيْبَ نفي لماهية الريب ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية، لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهية لثبتت الماهية، وذلك يناقض نفي الماهية، ولهذا السر كان قولنا :«لا إله إلا اللّه» نفياً لجميع الآلهة سوى اللّه تعالى. وأما قولنا :«لا ريب فيه» بالرفع فهو نقيض لقولنا :«ريب فيه» وهو يفيد ثبوت فرد واحد، فذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد ليتحقق التناقض.
الوقف على «فيه» :
المسألة الثانية : الوقف على فِيهِ هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على لا رَيْبَ ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله : قالُوا لا ضَيْرَ [الشعراء : ٥٠] وقول العرب : لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز، والتقدير :«لا ريب فيه فيه هدى». واعلم أن القراءة الأولى أولى، لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى واللّه أعلم.
حقيقة الهدى :
قوله تعالى : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فيه مسائل :
المسألة الأولى : في حقيقة الهدى : الهدى عبارة عن الدلالة، وقال صاحب «الكشاف» : الهدى هو الدلالة الموصلة إلى البغية، وقال آخرون : الهدى هو الاهتداء والعلم. والذي يدل / على صحة القول الأول وفساد القول الثاني والثالث أنه لو كان كون الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء، لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء محال، لكنه غير ممتنع بدليل قوله تعالى :
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت : ١٧] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء، ولأنه يصح في لغة العرب أن يقال : هديته فلم يهتد، وذلك يدل على قولنا، واحتج صاحب «الكشاف» بأمور ثلاثة : أولها :
وقوع الضلالة في مقابلة الهدى، قال تعالى : أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة : ١٦] وقال :
لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ : ٢٤] وثانيها : يقول مهدي في موضع المدح كمهتدي، فلو لم يكن من


الصفحة التالية
Icon