مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٧٢
الاعتقاد فنفتقر في إثبات هذا المذهب إلى إثبات قيود أربعة.
القيد الأول : أن الإيمان عبارة عن التصديق ويدل عليه وجوه : الأول : أنه كان في أصل اللغة للتصديق، فلو صار في عرف الشرع لغير التصديق لزم أن يكون المتكلم به متكلماً بغير كلام العرب، وذلك ينافي وصف القرآن بكونه عربياً. الثاني : أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين فلو صار منقولًا إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على معرفة ذلك المسمى، ولاشتهر وبلغ إلى حد التواتر، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه بقي على أصل الوضع. الثالث : أجمعنا على أن الإيمان المعدى بحرف الباء مبقي على أصل اللغة فوجب أن يكون غير المعدى كذلك. الرابع : أن اللّه تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن إضافة إلى القلب قال : مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [البقرة : ٤١] وقوله : وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل : ١٠٦] كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة : ٢٢] وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات : ١٤] الخامس : أن اللّه تعالى أينما ذكر الإيمان قرن العمل الصالح به ولو كان العمل الصالح داخلًا في الإيمان لكان ذلك تكراراً. السادس : أنه تعالى كثيراً ذكر الإيمان وقرنه بالمعاصي، قال : الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام : ٨٢] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات : ٩] واحتج ابن عباس على هذا بقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة : ١٧٨] من ثلاثة أوجه : أحدهما : أن القصاص إنما يجب على القاتل المتعمد ثم إنه خاطبه بقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فدل على أنه مؤمن.
وثانيها : قوله : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة : ١٧٨] وهذه الأخوة ليست إلا أخوة الإيمان، لقوله تعالى : إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات : ١٠] وثالثها : قوله : ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة : ١٧٨] وهذا لا يليق إلا بالمؤمن، ومما يدل على المطلوب قوله تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا [الأنفال : ٧٢] هذا أبقى اسم الإيمان لمن لم يهاجر مع عظم الوعيد في ترك الهجرة في قوله تعالى : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النحل : ٢٨] وقوله : ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال : ٧٢] ومع هذا جعلهم مؤمنين ويدل أيضاً عليه قوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة : ١] وقال :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال : ٢٧] وقوله تعالى : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً [التحريم : ٨] والأمر بالتوبة لمن لا ذنب له محال وقوله : وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور : ٣١] لا يقال فهذا يقتضي أن يكون كل مؤمن مذنباً وليس كذلك قولنا : هب أنه خص فيما عدا المذنب فبقي فيهم حجة.
القيد الثاني : أن الإيمان ليس عبارة عن التصديق اللساني، والدليل عليه قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة : ٨] نفي كونهم مؤمنين، ولو كان الإيمان باللّه عبارة عن التصديق اللساني لما صح هذا النفي.
القيد الثالث : أن الإيمان ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمناً.
القيد الرابع : ليس من شرط الإيمان التصديق بجميع صفات اللّه عز وجل، لأن الرسول عليه السلام كان


الصفحة التالية
Icon