مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٧٦
الثاني : أنه تعالى قال : وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود : ٦] وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال : أنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئاً. أما المعتزلة فقد احتجوا بالكتاب والسنة والمعنى : أما الكتاب فوجوه : أحدها : قوله تعالى : وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ مدحهم على الإنفاق مما رزقهم اللّه تعالى، فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق. وثانيها : لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله تعالى : وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة : ٢٥٤] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أنه ينفق مما أخذه بل يجب عليه رده، فدل على أن الحرام لا يكون رزقاً. وثالثها : قوله تعالى : قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس : ٥٩] فبين أن من حرم رزق اللّه فهو مفتر على اللّه، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً، وأما السنة فما
رواه أبو الحسين في كتاب «الغرر» بإسناده عن صفوان بن أمية قال. كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ جاءه عمرو بن قرة فقال له يا رسول اللّه إن اللّه كتب على الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فائذن لي في الغناء من غير فاحشة فقال عليه السلام :«لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو اللّه لقد رزقك اللّه رزقاً طيباً فاخترت ما حرم اللّه عليك من رزقه مكان ما أحل اللّه لك من حلاله أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئاً ضربتك ضرباً وجيعاً»
وأما المعنى فإن اللّه تعالى منع المكلف من الانتفاع بالحرام وأمر غيره بمنعه منه والانتفاع به، من منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال إنه رزقه إياه، ألا ترى أنه لا يقال إن / السلطان قد رزق جنده مالًا قد منعهم من أخذه، وإنما يقال : إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه ولا يمنعهم منه ولا أمر بمنعهم منه، أجاب أصحابنا عن التمسك بالآيات بأنه وإن كان الكل من اللّه، لكنه كما يقال :
يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال : يا خالق الكلاب والخنازير، وقال : عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان : ٦] فخص اسم العباد بالمتقين، وإن كان الكفار أيضاً من العباد، وكذلك هاهنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف وإن كان الحرام رزقاً أيضاً، وأجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا، لأن
قوله عليه السلام :«فاخترت ما حرم اللّه عليك من رزقه»
صريح في أن الرزق قد يكون حراماً وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض اللغة وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ واللّه أعلم.
المسألة التاسعة : أصل الإنفاق إخراج المال من اليد، ومنه نفق المبيع نفاقاً إذا كثر المشترون له، ونفقت الدابة إذا ماتت أي خرج روحها، ونافقاء الفأرة لأنها تخرج منها ومنه النفق في قوله تعالى : أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ [الأنعام : ٣٥].
المسألة العاشرة : في قوله : وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فوائد : أحدها : أدخل من التبعيضية صيانة لهم، وكفى عن : الإسراف والتبذير المنهي عنه. وثانيها : قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم، كأنه قال ويخصون بعض المال بالتصدق به. وثالثها : يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، والإنفاق الواجب أقسام : أحدها : الزكاة وهي قوله في آية الكنز : وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة : ٣٤].
وثانيها : الإنفاق على النفس وعلى من تجب عليه نفقته. وثالثها : الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله : وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ وأراد به الصدقة لقوله بعده :


الصفحة التالية
Icon