مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٨٤
التخصيص عن وقت الخطاب، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق لاحتمال أن المراد منها هو الخاص وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمن الرسول صلى اللّه عليه وسلم، فلا جرم حسن ذلك، وأقصى ما في الباب أن يقال : لو وجدت هذه القرينة لعرفناها وحيث لم نعرفها علمنا أنها ما وجدت إلا أن هذا الكلام ضعيف، لأن الاستدلال بعدم الوجدان على عدم الوجود من أضعف الأمارات المفيدة للظن فضلًا عن القطع، وإذا ثبت ذلك ظهر أن استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف واللّه أعلم ومن المعتزلة من / احتال في دفع ذلك فقال إن قوله : إن الذين كفروا لا يؤمنون كالنقيض لقوله : إن الذين كفروا يؤمنون، وقوله : إن الذين كفروا يؤمنون لا يصدق إلا إذا آمن كل واحد منهم، فإذا ثبت أنه في جانب الثبوت يقتضي العموم وجب أن لا يتوقف في جانب النفي على العموم بل يكفي في صدقه أن لا يصدر الإيمان عن واحد منهم، لأنه متى لم يؤمن واحد من ذلك الجمع ثبت أن ذلك الجمع لم يصدر منهم الإيمان، فثبت أن قوله : إن الذين كفروا لا يؤمنون يكفي في إجرائه على ظاهره أن لا يؤمن واحد منهم فكيف إذا لم يؤمن الكثير منهم والجواب : أن قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا صيغة الجمع وقوله :
لا يُؤْمِنُونَ أيضاً صيغة جمع والجمع إذا قوبل بالجمع توزع الفرد على الفرد فمعناه أن كل واحد منهم لا يؤمن وحينئذ يعود الكلام المذكور.
المسألة الرابعة : اختلف أهل التفسير في المراد هاهنا بقوله : الَّذِينَ كَفَرُوا فقال قائلون : إنهم رؤساء اليهود المعاندون الذين وصفهم اللّه تعالى بأنهم يكتمون الحق وهم يعلمون، وهو قول ابن عباس رضي اللّه عنهما، وقال آخرون : بل المراد قوم من المشركين، كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وهم الذين جحدوا بعد البينة، وأنكروا بعد المعرفة ونظيره ما قال اللّه تعالى : فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت : ٤، ٥] وكان عليه السلام حريصاً على أن يؤمن قومه جميعاً حيث قال اللّه تعالى له : فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف : ٦] وقال : أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس : ٩٩] ثم إنه سبحانه وتعالى بين له عليه السلام أنهم لا يؤمنون ليقطع طمعه عنهم ولا يتأذى بسبب ذلك، فإن اليأس إحدى الراحتين.
أما قوله تعالى : سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» : سَواءٌ اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى : تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران : ٦٤] فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت : ١٠] بمعنى مستوية، فكأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه.
المسألة الثانية : في ارتفاع سواء قولان : أحدهما : أن ارتفاعه على أنه خبر لأن وأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ في موضع الرفع به على الفاعلية، كأنه قيل، إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول : إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه. الثاني : أن تكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبره مقدماً بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن، واعلم أن الوجه الثاني أولى، لأن «سواء» اسم، وتنزيله بمنزلة الفعل يكون تركاً للظاهر من غير ضرورة وأنه لا يجوز، وإذا ثبت هذا فنقول : من المعلوم أن المراد وصف الإنذار وعدم الإنذار بالاستواء، فوجب أن يكون سواء خبراً فيكون الخبر مقدماً. وذلك يدل على أن


الصفحة التالية
Icon