مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٨٩
[الأعراف : ١٥٧] وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال المقام الثالث : الجواب على سبيل التفصيل، للمعتزلة فيه طريقان : الأول : طريقة أبي علي وأبي هاشم والقاضي عبد الجبار، فإنا لما قلنا : لو وقع خلاف معلوم اللّه تعالى لانقلب علمه جهلًا قالوا خطأ : قول من يقول : إنه ينقلب علمه جهلًا، وخطأ أيضاً قول من يقول : إنه لا ينقلب، ولكن يجب الإمساك عن القولين : والثاني : طريقة الكعبي واختيار أبي الحسين البصري : أن العلم تبع المعلوم، فإذا فرضت الواقع من العبد من الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل للّه تعالى هو العلم بالإيمان، ومتى فرضت الواقع منه هو الكفر بدلًا على الإيمان عرفت أن الحاصل في الأزل هو العلم بالكفر بدلًا عن الإيمان، فهذا فرض علم بدلًا عن علم آخر، لا أنه تغير العلم. فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة. واعلم أن هذا المبحث صار منشأ لضلالات عظيمة : فمنها أن منكري التكاليف والنبوات قالوا : قد سمعنا كلام أهل الجبر فوجدناه قوياً قاطعاً، وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ولا يلتفت العاقل إليهما، وسمعنا كلام المعتزلة في أن مع القول بالجبر لا يجوز التكليف ويقبح، والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جداً فصار مجموع الكلامين كلاماً قوياً في نفي التكاليف، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوات.
ومنها أن الطاعنين / في القرآن قالوا : الذي قاله المعتزلة من الآيات الكثيرة الدالة على أنه لا مانع من الإيمان ومن الطاعة فقد صدقوا فيه، والذي قاله الجبرية : من أن العلم بعدم الإيمان مانع منه فقد صدقوا فيه، فدل على أن القرآن ورد على ضد العقل وعلى خلافه، وذلك من أعظم المطاعن وأقوى القوادح فيه، ثم من سلم من هؤلاء أن هذا القرآن هو القرآن الذي جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم توسل به إلى الطعن فيه، وقال قوم من الرافضة : إن هذا الذي عندنا ليس هو القرآن الذي جاء به محمد بل غير وبدل. والدليل عليه اشتماله على هذه المناقضات التي ظهرت بسبب هذه المناظرة الدائرة بين أهل الجبر وأهل القدر. ومنها أن المقلدة الطاعنين في النظر والاستدلال احتجوا بهذه المناظرة وقالوا : لو جوزنا التمسك بالدلائل العقلية لزم القدح في التكليف والنبوة بسبب هذه المناظرة، فإن كلام أهل الجبر في نهاية القوة في إثبات الجبر، وكلام أهل القدر في بيان أنه متى ثبت الجبر بطل التكليف بالكلية في نهاية القوة، فيتولد من مجموع الكلامين أعظم شبهة في القدح والتكليف والنبوة، فثبت أن الرجوع إلى العقليات يورث الكفر والضلال، وعند هذا قيل من تعمق في الكلام تزندق. ومنها أن هشام بن الحكم زعم أنه سبحانه لا يعلم الأشياء قبل وقوعها وجوز البداء على اللّه تعالى وقال : إن قوله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إنما وقع على سبيل الاستدلال بالأمارة، ويجوز له أن يظهر خلاف ما ذكره، وإنما قال بهذا المذهب فراراً من تلك الإشكالات المتقدمة. واعلم أن جملة الوجوه التي رويناها عن المعتزلة كلمات لا تعلق لها بالكشف عن وجه الجواب بل هي جارية مجرى التشنيعات. فأما الجوابان اللذان عليهما اعتماد القوم ففي نهاية الضعف.
أما قول أبي علي وأبي هشام والقاضي : خطأ قول من يقول إنه يدل، وخطأ قول من يقول : إنه لا يدل : إن كان المراد منه الحكم بفساد القسمين كان ذلك حكماً بفساد النفي والإثبات وذلك لا يرتضيه العقل وإن كان معناه أن أحدهما حق لكن لا أعرف أن الحق هو أنه يدل أو لا يدل كفى في دفعه تقرير وجه الاستدلال، فإنا لما بينا أن العلم بالعدم لا يحصل إلا مع العدم، فلو حصل الوجود معه لكان قد اجتمع العدم والوجود معاً ولا يتمكن العقل من تقرير كلام أوضح من هذا وأقل مقدمات فيه. وأما قول الكعبي ففي نهاية الضعف، لأنا وإن كنا لا ندري أن اللّه تعالى
كان في الأزل عالماً بوجود الإيمان أو بعدمه لكنا نعلم أن العلم بأحد هذين الأمرين كان حاصلًا، وهو الآن


الصفحة التالية
Icon