مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٩٥
بجلال حضرته هذه القبائح، وأقول : هاهنا سر آخر، وهو أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر، لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح، وهو نفي الصانع، ولو توقفت لزم الجبر. وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدرة. بل هاهنا سر آخر هو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضاً تفرقة بديهية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية وجزماً بديهياً بحسن المدح وقبح الذم والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة، فكأن / هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب العلوم الضرورية، وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم اللّه تعالى نظراً إلى قدرته وحكمته، وبحسب التوحيد والتنزيه وبحسب الدلائل السمعية، فلهذه المآخذ التي شرحناها والأسرار التي كشفنا عن حقائقها صعبت المسألة وغمضت وعظمت، فنسأل اللّه العظيم أن يوفقنا للحق وأن يختم عاقبتنا بالخير آمين رب العالمين.
المسألة الرابعة : قال صاحب الكشاف : اللفظ يحتمل أن تكون الأسماء داخلة في حكم الختم، وفي حكم التغشية، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم، لقوله تعالى : وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية : ٢٣] ولوقفهم على سمعهم دون قلوبهم.
المسألة الخامسة : الفائدة في تكرير الجار في قوله : وَعَلى سَمْعِهِمْ أنها لما أعيدت للأسماع كان أدل على شدة الختم في الموضعين.
المسألة السادسة : إنما جمع القلوب والأبصار ووحد السمع لوجوه : أحدها : أنه وحد السمع، لأن لكل واحد منهم سمعاً واحداً، كما يقال : أتاني برأس الكبشين، يعني رأس كل واحد منهما، كما وحد البطن في قوله :«كلوا في بعض بطنكمو تعيشوا» يفعلون ذلك إذا أمنوا اللبس، فإذا لم يؤمن كقولك. فرشهم وثوبهم وأنت تريد الجمع رفضوه. الثاني : أن السمع مصدر في أصله، والمصادر لا تجمع يقال : رجلان صوم، ورجال صوم، فروعي الأصل، يدل على ذلك جمع الأذن في قوله : وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت : ٥] الثالث : أن نقدر مضافاً محذوفاً أي وعلى حواس سمعهم. الرابع : قال سيبويه : إنه وحد لفظ السمع إلا أنه ذكر ما قبله وما بعده بلفظ الجمع، وذلك يدل على أن المراد منه الجمع أيضاً، قال تعالى : يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة : ٢٥٧] عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ [المعارج : ٣٧] قال الراعي :
بها جيف الحيدى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
وإنما أراد جلودها، وقرأ ابن أبي عبلة (و على أسماعهم).
المسألة السابعة : من الناس من قال : السمع أفضل من البصر، لأن اللّه تعالى حيث ذكرهما قدم السمع على البصر، والتقديم دليل على التفضيل، ولأن السمع شرط النبوة بخلاف البصر، ولذلك ما بعث اللّه رسولًا أصم، وقد كان فيهم من كان مبتلى بالعمى، ولأن بالسمع تصل نتائج عقول البعض إلى البعض، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العقل بالمعارف، والبصر لا يوقفك إلا على المحسوسات، ولأن السمع متصرف في الجهات الست بخلاف البصر، ولأن السمع متى بطل بطل النطق، والبصر إذا بطل لم يبطل


الصفحة التالية
Icon