مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٢٩٨
بما يؤاخذ به اللبيب الحازم، والعاقل العالم، البارد الرأس، المعتدل مزاج القلب، اللطيف الروح الذي رزقه مربياً شفيقاً، ومعلماً كاملًا؟ ما هذا من العدل والرحمة والكرم والرأفة في شي ء! فثبت بهذه الوجوه أن القول بالعقاب على خلاف قضايا العقول. وخامسها : أنه تعالى إنما كلفنا النفع لعوده إلينا، لأنه قال : إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء : ٧] فإذا عصينا فقد فوتنا على أنفسنا تلك المنافع، فهل يحسن في العقول أن يأخذ الحكيم إنساناً ويقول له إني أعذبك العذاب الشديد، لأنك فوت على نفسك بعض المنافع، فإنه يقال له إن تحصيل النفع مرجوح بالنسبة إلى دفع الضرر فهب أني فوت على نفسي أدون المطلوبين أفتفوت علي لأجل ذلك أعظمها وهل يحسن من السيد أن يأخذ عبده ويقول إنك قدرت على أن تكتسب ديناراً لنفسك ولتنتفع به خاصة من غير أن يكون لي فيه غرض ألبتة، فلما لم تكتسب ذلك الدينار ولم تنتفع به آخذك وأقطع أعضاءك إرباً إرباً، لا شك أن هذا نهاية السفاهة، فكيف يليق بأحكم الحاكمين! ثم قالوا هب أن سلمنا هذا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وذلك لأن أقسى الناس قلباً وأشدهم غلظة وفظاظة وبعداً عن الخير إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه وعذبه يوماً أو شهراً أو سنة فإنه يشبع منه ويمل، فلو بقي مواظباً عليه لامه كل أحد، ويقال هب أنه بالغ هذا في إضرارك، ولكن إلى متى هذا التعذيب، فإما أن تقتله وتريحه، وإما أن تخلصه، فإذا قبح هذا من الإنسان الذي يلتذ بالانتقام فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام الذي يقال! وسادسها : أنه سبحانه نهي عباده عن استيفاء الزيادة، فقال : فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [الإسراء : ٣٣] وقال : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : ٤٠] ثم إن العبد هب أنه عصى اللّه تعالى طول عمره فأين عمره من الأبد؟ فيكون العقاب
المؤبد ظلماً. وسابعها : أن العبد لو واظب على الكفر طول عمره، فإذا تاب ثم مات عفا اللّه عنه وأجاب دعاءه وقبل توبته، ألا ترى أن هذا الكريم العظيم ما بقي في الآخرة، أو عقول أولئك المعذبين ما بقيت فلم لا يتوبون عن معاصيهم؟ وإذا تابوا فلم لا يقبل اللّه تعالى منهم توبتهم، ولم لا يسمع نداءهم، / ولم يخيب رجاءهم؟ ولم كان في الدنيا في الرحمة والكرم إلى حيث قال : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر : ٦٠] أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل : ٦٢] وفي الآخرة صار بحيث كلما كان تضرعهم إليه أشد فإنه لا يخاطبهم إلا بقوله : اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون : ١٠٨] قالوا : فهذه الوجوه مما توجب القطع بعدم العقاب. ثم قال من آمن من هؤلاء بالقرآن :
العذر عما ورد في القرآن من أنواع العذاب من وجوه : أحدها : أن التمسك بالدلائل اللفظية لا يفيد اليقين، والدلائل العقلية تفيد اليقين، والمظنون لا يعارض المقطوع. وإنما قلنا : إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين، لأن الدلائل اللفظية مبنية على أصول كلها ظنية والمبني على الظني ظني، وإنما قلنا إنها مبنية على أصول ظنية، لأنها مبنية على نقل اللغات ونقل النحو والتصريف، ورواة هذه الأشياء لا يعلم بلوغهم إلى حد التواتر، فكانت روايتهم مظنونة، وأيضاً فهي مبنية على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم التخصيص وعدم الإضمار بالزيادة والنقصان وعدم التقديم والتأخير، وكل ذلك أمور ظنية، وأيضاً فهي مبنية على عدم المعارض العقلي، فإنه بتقدير وجوده لا يمكن القول بصدقهما ولا بكذبهما معاً، ولا يمكن ترجيح النقل على العقل لأن العقل أصل النقل، والطعن في العقل يوجب الطعن في العقل والنقل معاً، لكن عدم المعارض العقلي مظنون، هذا إذا لم يوجد فكيف وقد وجدنا هاهنا دلائل عقلية على خلاف هذه الظواهر، فثبت أن دلالة هذه الدلائل النقلية ظنية، وأما أن الظني لا يعارض اليقيني فلا شك فيه. وثانيها : وهو أن


الصفحة التالية
Icon