مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣١١
في قلوب المسلمين فسمي ذلك التزايد مدداً وأسنده إلى اللّه تعالى لأنه مسبب عن فعله بهم. وثانيها : أن يحمل على منع القسر والإلجاء كما قيل : إن السفيه إذا لم ينه فهو مأمور. وثالثها : أن يسند فعل الشيطان إلى اللّه تعالى لأنه بتمكينه وإقداره والتخلية بينه وبين إغواء عباده. ورابعاً : ما قاله الجبائي فإنه قال ويمدهم أي يمد عمرهم ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون وهذا ضعيف من وجهين : الأول : لما تبينا أنه لا يجوز في اللغة تفسير ويمدهم بالمد في العمر : الثاني : هب أنه يصح ذلك ولكنه يفيد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في طغيانهم يعمهون وذلك يفيد الإشكال أجاب القاضي عن ذلك بأنه ليس المراد أنه تعالى يمد عمرهم لغرض أن يكونوا في الطغيان، بل المراد، أنه تعالى يبقيهم ويلطف بهم في الطاعة فيأبون إلا أن يعمهوا. واعلم أن الكلام في هذا الباب تقدم في قوله : خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فلا فائدة في الإعادة. واعلم أن الطغيان هو الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتو، قال تعالى : إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة : ١١] أي جاوز قدره، وقال : اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه : ٢٤] أي أسرف وتجاوز الحد. وقرأ زيد بن علي في طغيانهم بالكسر وهما لغتان كلقيان ولقيان، والعمه مثل العمى إلا أن العمى عام في البصر والرأي والعمه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير لا يدري أين يتوجه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
واعلم أن اشتراء الضلالة بالهدى اختيارها عليه واستبدالها به، فإن قيل كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى قلنا جعلوا لتمكنهم منه كأنه في أيديهم فإذا تركوه ومالوا إلى الضلالة فقد استبدلوها به، والضلالة الجور والخروج عن القصد وفقد الاهتداء، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين، أما قوله : فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فالمعنى أنهم ما ربحوا في تجارتهم، وفيه سؤالان : السؤال الأول : كيف أسند الخسران إلى التجارة وهو لأصحابها؟ الجواب : هو من الإسناد المجازي وهو أن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له كما تلبست التجارة بالمشتري. السؤال الثاني : هب أن شراء الضلالة بالهدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال فما معنى ذكر الربح والتجارة وما كان ثم مبايعة على الحقيقة والجواب : هذا مما يقوي أمر المجاز ويحسنه كما قال الشاعر :
ولما رأيت النسر عز ابن دأية وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب أتبعه بذكر التعشيش والوكر فكذا هاهنا لما ذكر سبحانه الشراء أتبعه ما يشاكله ويواخيه، تمثيلًا لخسارتهم وتصويراً لحقيقته. أما قوله : وَما كانُوا مُهْتَدِينَ فالمعنى أن الذي تطلبه التجار في متصرفاتهم أمران : سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الأمرين لأن رأس مالهم هو العقل الخالي عن المانع، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة الكسبية مانعة من الاشتغال بطلب العقائد الحقة. وقال قتادة : انتقلوا من الهدى إلى الضلالة، ومن الطاعة إلى المعصية، ومن الجماعة إلى التفرقة ومن الأمن إلى الخوف، ومن السنة إلى البدعة، واللّه أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧)


الصفحة التالية
Icon